تركيا تحاول إشعال نفط وغاز المتوسط

03:26 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. محمد فراج أبو النور *

اكتشاف احتياطيات هائلة من الغاز الطبيعي (والنفط والمكثفات النفطية بدرجة أقل) في أعماق الحوض الشرقي للبحر المتوسط، فتح باباً واسعاً للنزاعات بين عدد من البلدان المطلة على شرق المتوسط، سواء بين لبنان و«إسرائيل» وقبرص، أو بين تركيا وقبرص واليونان ومصر؛ وهي نزاعات لم تتخذ شكلاً مسلحاً حتى الآن، إلا أنها تنطوي على قدر كبير من التوتر والمخاطر.
تمثل تركيا بالذات طرفاً أساسياً في هذه النزاعات، خاصة أنها لم توقع على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (1982) هي و«إسرائيل»، وهي الاتفاقية التي تحدد المياه الإقليمية لكل دولة (12 ميلاً بحرياً)، كما تحدد ما يُسمى (المنطقة الاقتصادية الخالصة للدولة ب200 ميل بحري) ما لم تكن المسافة بين الدولتين أقل من أن تسمح بهذا الامتداد، وفي هذه الحالة فإن الاتفاقية تحدد أسس اقتسام المسافة، كما تتضمن أسس ترسيم الحدود البحرية بين الدول.
وبينما وقعت مصر وقبرص واليونان اتفاقات؛ لترسيم الحدود فيما بينها، فإن تركيا أعلنت أنها لا تعترف بهذه الاتفاقات، وهي تطرح مطالب تمتد إلى المناطق المخصصة لكل من مصر واليونان، وتشمل أجزاء كبيرة من المناطق المخصصة لقبرص، بمقتضى اتفاقات ترسيم الحدود البحرية.
وتأزم الموقف بشدة حينما أرسلت تركيا سفينة؛ للتنقيب عن الغاز تحت حماية عسكرية- في موقع غرب جزيرة قبرص- وكانت قبل ذلك قد طردت من الموقع سفينة تابعة لشركة «إيني الإيطالية».. علماً بأن موقع التنقيب يدخل ضمن (المنطقة الاقتصادية الخالصة) للجمهورية القبرصية ثم توالى إرسال سفن التنقيب التركية حتى بلغ عددها مؤخراً أربع سفن، تحت الحماية العسكرية، الأمر الذي أدانه الاتحاد الأوروبي بشدة في قمته الأخيرة. كما دانته الولايات المتحدة وروسيا، ثم اتخذ اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي قراراً بفرض عقوبات على تركيا؛ تمثلت في اقتطاع مبلغ (145 مليون دولار) من مساعدات كان من المقرر أن يقدمها عدد من الصناديق الأوروبية لأنقرة عام 2020، مع توجيه البنك الأوروبي للاستثمار إلى تشديد شروط تقديم أي تمويل لتركيا، وتعليق المفاوضات حول اتفاقية شاملة للنقل الجوي معها، وتخفيض مستوى الاجتماعات بين المسؤولين من الطرفين (مواقع ووكالات 16 و17 يوليو 2019) وإنذار تركيا بأن الاتحاد سيتخذ مواقف أشد إذا لم تكف عن إجراءاتها التي تمثل انتهاكاً للقانون الدولي، إلا أن أردوغان ووزير خارجيته مولد جاويش أوغلو أعلنا أن أنقرة لن توقف أنشطتها مهما كانت العقوبات.
وتتذرع تركيا بأنها تقوم بالتنقيب في مياه تابعة لما يُسمى ب(جمهورية شمال قبرص التركية)؛ وهو كيان لا تعترف به غير أنقرة، يقوم على أراض احتلتها تركيا عام 1974، تمثل نحو ثلث مساحة الجمهورية القبرصية (3355 كم2 من مساحة الجزيرة البالغة 9250 كم2 ويضم نحو 20% من سكانها)، بينما تتمتع جمهورية قبرص بالاعتراف الدولي، وهي عضو في الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، ومع ذلك تسميها أنقرة ب(قبرص الرومية.. أي اليونانية) استناداً إلى أن سكانها من أصول يونانية، كما ترفض سحب قواتها من شمال الجزيرة.
ومعروف أيضاً أن هناك عداوة تاريخية بين تركيا واليونان، التي ظلت لعدة قرون تحت الاحتلال العثماني، كما أن هناك خلافات قديمة بين البلدين حول ملكية عدد من جزر بحر إيجه، الواقع بين البلدين، ويستمر هذا العداء بالرغم من عضوية البلدين في حلف (ناتو).
والحقيقة أن الثروات التي تختزنها أعماق الحوض الشرقي للبحر المتوسط هي ثروات هائلة بأي مقياس، يقدرها الخبراء بنحو (3.5) تريليون قدم مكعبة من الغاز، ونحو (1.7) مليار برميل من النفط والمكثفات النفطية.. ويقدرون قيمتها بمئات المليارات من الدولارات، وهي ثروة جديرة بأن يسيل لها لعاب أي دولة، فما بالنا إذا كانت هذه الدولة ذات أطماع إمبراطورية مثل تركيا، وإذا كانت تملك قوة عسكرية ضخمة (بما في ذلك القوة البحرية) كالتي تملكها أنقرة؟
ولعل هذه الوقائع تكفي لتفسير استهانة تركيا بالقانون الدولي وإقدامها على ما يمكن تسميته (دبلوماسية البوارج) تجاه دولة صغيرة مثل قبرص، التي يصعب أن تجد دعماً عسكرياً إلا من دولة كاليونان، هي أقوى بكثير؛ لكنها تظل أضعف بكثير من تركيا، كما أن خطوط مواصلاتها البحرية مع قبرص أبعد بكثير من تركيا.
علاقات القوى العسكرية تفسر أيضاً ابتعاد تركيا- مؤقتاً على الأقل- عن محاولة ممارسة مغامراتها بالقرب من السواحل السورية الملاصقة لها، التي تشير التقارير إلى أنها تختزن ثروات كبيرة من الغاز؛ حيث إن هذه السواحل تعج بالسفن العسكرية الروسية، علماً بأنه لم يتم بعد ترسيم الحدود بين البلدين. كما أن محاولات التحرش بمصر لا تصل إلى حد الاقتراب من المنطقة الاقتصادية المصرية؛ حيث تعرف تركيا أن مصر ليست لقمة سائغة، خاصة بعد أن اشترت حاملتي الطائرات المروحية من طراز «ميسترال» المسلحتين بالهيلوكوبترات الهجومية من طراز «كا- 52» فضلاً عن الغواصات الألمانية الحديثة أو سلاح الطيران المتطور.
ويجب أن نشير هنا إلى سبب آخر يدفع تركيا إلى استخدام سياسة القوة تجاه قبرص وإعلان عدم اعترافها باتفاقات ترسيم الحدود البحرية بينها وبين مصر واليونان؛ ذلك هو مشاركة الدول الثلاث في (منتدى غاز شرق المتوسط) الذي سيتم في إطاره استقبال مصر للغاز القبرصي (من حقل أفروديت الضخم) عبر خط أنابيب؛ لتسييله ثم إعادة تصديره لأوروبا.. مع ما يمكن أن تصدره أيضاً من إنتاج حقولها الواعدة؛ إذ تطمح تركيا لأن تكون معبراً لتصدير الغاز الروسي إلى أوروبا، بعد استكمال خط «السيل التركي» في نهاية العام الجاري، أو بداية العام القادم؛ وذلك بعد الحصول على احتياجاتها من ذلك الغاز الروسي، فبديهي أن أنقرة لا ترحب بالمنافسة في هذا المجال، الذي من شأنه أن يعزز مكانتها الاستراتيجية.
غير أن المخطط التركي لا يقف عند هذا كله، ولا عند محاولاتها المستميتة للتوسع في الأراضي السورية في الشمال والشمال الغربي (إدلب)، ولا عند قواعدها العسكرية في قطر والصومال؛ فهي تبذل جهوداً مستميتة في محاولة التغلغل في ليبيا، ليس طمعاً في ثرواتها الضخمة من النفط والغاز على الأرض وعلى سواحل المتوسط فحسب، وإنما أيضاً للالتفاف حول مصر، وخلق بؤرة إرهابية على حدودها الغربية، تضعفها وتتضافر مع الأنشطة الإرهابية لجماعة «الإخوان» و«داعش» وغيرهما من المنظمات الإرهابية، سواء في سيناء أو في الداخل.
أما بالنسبة لقبرص فإننا نعتقد أن محاولة تركيا للتوسع في التنقيب عن الغاز ستصطدم بعقوبات أوروبية متصاعدة تجعل الكُلفة باهظة بالنسبة لاقتصادها المتعثر الذي سيواجه مزيداً من المتاعب من دون علاقات طبيعية مع أوروبا.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"