رسائل عسكرية صينية روسية

04:24 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. نورهان الشيخ *

إن المناورات الجوية المشتركة بعيدة المدى، التي أُجريت للمرة الأولى بين القوات الجوية التابعة لجيش التحرير الشعبي الصيني والقوات الجوية الروسية في 23 يوليو/تموز، فوق بحر اليابان وبحر الصين الشرقي في المحيط الهادي، تضمنت رسائل ودلالات عدة، منها ما يتعلق بالعلاقات بين البلدين، ومنها رسائل لأطراف دولية وإقليمية أخرى.
على الرغم من عدم ضخامة القوات المشاركة فيها ومحدودية الفترة الزمنية، مقارنة بمناورات أخرى مشتركة للبلدين، فإنها تظل نوعية واستراتيجية وبالغة الدلالة في ما يتعلق بالمدى الذي وصل إليه التعاون الاستراتيجي بينهما، وكونه اقترب كثيراً من مستوى التحالف الاستراتيجي. فقد شاركت في المناورات أربع من قاذفات القنابل الاستراتيجية المدعومة بالطائرات المقاتلة، اثنتان من قاذفات القنابل الصينية من طراز «PLAAF Xian H-6K»، وقاذفتان استراتيجيتان تابعتان للقوات الجوية الروسية (توبوليف Tu-95MS)، طارت إحدى عشرة ساعة، قطعت خلالها مسافة تسعة آلاف كيلومتر.
وقد أكد المتحدث باسم وزارة الدفاع الصينية، وو تشيان، في اليوم التالي للمناورات، أن «القوات المسلحة لروسيا والصين ستواصل تطوير العلاقات العسكرية بين البلدين، وتعزيز دعم بعضهما بعضاً، وتكثيف آليات التعاون الاستراتيجي، وتطوير المعدات العسكرية، ومكافحة الإرهاب»، و«أن الصين وروسيا دخلتا حقبة جديدة من العلاقات، كما أن تفاعل القوات المسلحة للبلدين دخل أيضاً حقبة جديدة تحت القيادة الاستراتيجية لقادة الدولتين». وأضاف وو تشيان: «سنعمق تعاوننا، وبالتالي نسهم في الحفاظ على السلام العالمي وتوازن الأمن والاستقرار الدوليين».
وجاءت المناورات في إطار خطة للتعاون العسكري بين البلدين لعام 2019، وتعد واحدة في سلسلة تدريبات مشتركة تركزت في منطقة المحيط الهادي من أبرزها «التعاون البحري 2019»، والتي أجريت للمرة الأولى أيضاً في مايو/أيار الماضي، على الساحل الشرقي للصين في مياه المحيط الهادي، في ميناء تشينجداو الصيني، على شاطئ البحر الأصفر، بمشاركة 15 قطعة، منها سفن قتالية وغواصات وسفن إمداد، إضافة إلى 10 طائرات ومروحيات ومجموعات من مشاة البحرية، منها نحو 4000 من القوات الصينية، وتضمنت التدريب على عمليات مضادة للغواصات وإنقاذ السفن.
ومن المعروف أن العمليات المضادة للغواصات تتسم بكونها سرية في القوات المسلحة لأي دولة، ومن ثم، فإن قيام روسيا والصين بمثل هذه المناورات يؤشر للمستوى الاستراتيجي الذي وصلت إليه الشراكة بين البلدين. سبقت ذلك في سبتمبر 2018 مناورات «فوستوك 2018»، أو «الشرق 2018»، قرب الحدود الروسية مع الصين، وكانت أكبر مناورات حربية تجريها روسيا منذ المناورات العسكرية السوفييتية «زاباد 81»، أو «الغرب 81» في عام 1981، وشارك فيها 300 ألف جندي روسي و36 ألف دبابة وأكثر من ألف طائرة عسكرية، واثنان من أساطيل البحرية الروسية، الباسيفيكي والشمالي، وجميع وحداتها المحمولة جواً، وتضمنت تدريبات مشتركة مع الجيش الصيني شارك فيها حوالي 3200 جندي صيني، مزودون بأكثر من 900 قطعة عتاد، و30 طائرة هليكوبتر وطائرة عادية، وتزامن انطلاقها مع بدء مباحثات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيره الصيني شي جين بينج في مدينة فلاديفوستوك الروسية.
على صعيد آخر، فإن لهذا التركيز الروسي الصيني على منطقة شرق آسيا والمحيط الهادي، دلالته، في ما يتعلق بالتوازن الاستراتيجي في تلك المنطقة، والذي بدأ يميل تدريجياً لصالح الصين وروسيا، وتعد المناورات مؤشراً على ذلك ورسالة مهمة للولايات المتحدة التي طالما كان لها النفوذ الأكثر تأثيراً في المنطقة في ضوء الحضور العسكري الأمريكي الضخم في اليابان وكوريا الجنوبية والمحيط الهادي عامة، وكون طوكيو وسيؤول حليفتان استراتيجيتان لواشنطن. ووفقاً لوزارة الدفاع الصينية، فإن هذه المناورات تهدف إلى تعزيز الشراكة العسكرية الاستراتيجية بين الصين وروسيا، إضافة إلى رفع قدرة البلدين على الاستجابة المشتركة للتهديدات الأمنية المختلفة، وضمان السلام والاستقرار والأمن الإقليمي، ومواجهة ما أطلق عليه «سياسة القطب الأوحد»، التي يقصد بها الهيمنة التي تمارسها الولايات المتحدة على العالم.
إن موسكو وبكين تعتبران السياسة الأمريكية «العدائية» أبرز التهديدات والتحديات المشتركة التي تواجههما معاً، وتعملان على الانتقال لنظام دولي متعدد القوى، تمثل أوراسيا مركز ثقل مهماً وقائداً فيه على الصعيدين الاقتصادي والاستراتيجي، وتؤكدان من خلال سلسلة المناورات تلك، حضورهما في منطقة شرق آسيا، وتحاولان تحجيم النفوذ الأمريكي وتطويقه عبر تمددهما العسكري في المنطقة، وإبراز قدراتهما العسكرية الضخمة براً وجواً وبحراً.
واللافت للانتباه أنه في المناورات الجوية الأخيرة لم تبد الولايات المتحدة الانزعاج المعتاد في مثل هذه الحالات، وتركت اليابان وكوريا الجنوبية تعبران عن ذلك. فقد اتهمت كوريا الجنوبية روسيا باختراق المجال الجوي فوق جزر دوكدو، وهي مجموعة جزر متنازع عليها بين كوريا الجنوبية واليابان، وتسيطر عليها سيؤول، في حين تدعي اليابان أحقيتها فيها، وتطلق عليها تاكيشيما، لذلك فقد اتهمت وزارة الدفاع اليابانية هي الأخرى، روسيا، بانتهاك المجال الجوي فوق الجزر.
ووفقاً لبيان وزارة الدفاع الكورية الجنوبية، فإن قاذفة روسية من طراز A-50 للإنذار المبكر والمراقبة المحمولة جواً، اخترقت المجال الجوي الكوري الجنوبي مرتين، وإنه تم إطلاق 20 قنبلة و360 طلقة رشاشة كطلقات تحذيرية للطائرة الروسية. وقد نفى قائد قوات الطيران الروسية بعيدة المدى، أن تكون الطائرات الروسية قد انتهكت المجال الجوي الكوري الجنوبي، وأكد المتحدث باسم وزارة الدفاع الصينية أن «الطائرات العسكرية الصينية والروسية لم تنتهك المجال الجوي لدول أخرى خلال طلعاتها المشتركة فوق بحر اليابان، وأنها التزمت بشدة بالمعايير ذات الصلة بالقانون الدولي».
وعلى الرغم من نفي الجانبين الروسي والصيني نفياً قطعياً انتهاك المجال الجوي الكوري الجنوبي، وتأكيد البلدين أن المناورات ليست موجهة ضد أي بلد ثالث، فإن المناورات الروسية الصينية تثير قدراً من التوتر بين روسيا والصين من ناحية، واليابان وكوريا الجنوبية من ناحية أخرى. وصرح مستشار الأمن القومي لكوريا الجنوبية، تشونج إوي يونج، لسكرتير مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف، بأن كوريا الجنوبية تنظر إلى ما اعتبرته انتهاك المجال الجوي لها «على محمل الجد»، وستتخذ إجراءات «أقوى بكثير» في حالة وقوع حادث مماثل مستقبلًا. كما أنها أسهمت من ناحية أخرى، في إحياء التوتر الكامن بين طوكيو وسيؤول حول السيادة على مجموعة جزر دوكدو (تاكيشيما) التي تقع في منتصف المسافة بين كوريا الجنوبية واليابان، وكانت مصدر نزاع إقليمي بين الدولتين.
فقد احتجت اليابان التي تدعي ملكية الجزر، لكوريا الجنوبية لإطلاقها طلقات تحذيرية على ما تعتبره المجال الجوي الياباني، وردت كوريا الجنوبية في وقت لاحق بأنها لا تستطيع قبول البيان الياباني، مؤكدة أن الجزر هي أراضٍ كورية جنوبية.
إن المناورات الروسية الصينية تحمل رسائل سياسية واستراتيجية بالغة الأهمية، ولا يقتصر تأثيرها على مجرد الشق الاحترافي للقوات المسلحة في البلدين، وإنما يتجاوز ذلك إلى التوازن الاستراتيجي العالمي، لاسيما في منطقة شرق آسيا.

* باحثة وأكاديمية مصرية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"