قمة أنقرة.. أردوغان الخاسر الأكبر

04:33 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. محمد فراج أبو النور *

انعقدت قمة أنقرة للدول الثلاث الضامنة للتسوية السورية؛ (روسيا وتركيا وإيران) في أجواء مشحونة بالتوتر، فقد جاء انعقاد القمة - وهي الخامسة للدول الثلاث - في ظل هزيمة سياسية ومعنوية كبيرة لتركيا؛ بعد حملة عسكرية (سورية - روسية) ضخمة أسفرت عن هزيمة قاسية لقوات الإرهابيين في منطقة إدلب، واستعادة الجيش السوري السيطرة على كامل الريف الشمالي لمحافظة حماة، والركن الجنوبي الشرقي لمحافظة إدلب نفسها، بما فيه مدينة (خان شيخون) الاستراتيجية، والمناطق المحيطة بها.
لم يقتصر الأمر على هزيمة الإرهابيين الموالين لتركيا، والمدعومين من جانبها؛ بل اتخذت هزيمة تركيا السياسية والمعنوية طابعاً عسكرياً أيضاً، بمنع محاولاتها لإمداد قوات «النصرة» في خان شيخون بالأسلحة والذخيرة، بالقوة العسكرية.
والأقسى من ذلك أن القوات السورية فرضت حصاراً كاملاً على نقطة المراقبة التركية في بلدة (مورك) بما فيها من قوات حكومية وإرهابيين لجأوا إليها؛ للاحتماء بها، ولا يزال هذا الحصار مستمراً، كما لا تزال الحشود السورية والروسية موجودة في المنطقة، ومستعدة لاستئناف القتال في ظل وقف هش لإطلاق النار.
ما حدث في إدلب خلال الأسابيع السابقة على قمة أنقرة كانت له انعكاساته المهمة على القمة نفسها، ومعروف أن مناقشة الوضع في إدلب قد استغرقت الجزء الأكبر من وقت القمة والمناقشات السابقة عليها، ومعروف أيضاً أن أردوغان كان قد طلب اجتماعاً عاجلاً مع بوتين، وسافر إلى موسكو أواخر أغسطس/آب؛ لبحث وقف إطلاق النار، بعد الهزائم المتوالية لأتباعه، والأرجح أنه قد تم الاتفاق في هذا الاجتماع على الخطوط العامة للنتائج التي توصلت إليها القمة، وأهمها البدء في التنفيذ الجدي ل«اتفاق سوتشي» بشأن إدلب (17 سبتمبر/أيلول 2018)، بين موسكو وأنقرة، وهو الاتفاق الذي راوغ أردوغان طويلاً في تنفيذه؛ بل تصرف عكسه تماماً.
فبدلاً من إقامة منطقة عازلة بمحاذاة خطوط التماس بين الإرهابيين والقوات السورية، وبعمق (15- 20كم) ونزع السلاح الثقيل من أيدي الفصائل الإرهابية المنسحبة لداخل إدلب، سمح أردوغان لتلك الفصائل بالسيطرة على خطوط التماس، و«للنصرة» بالسيطرة على (90%) من أراضي إدلب، مع تزويد الفصائل الإرهابية بمزيد من الأسلحة الثقيلة والصواريخ (أرض- أرض) والطائرات المُسيّرة (الدرون) وبإلحاق الضرر بحلب واللاذقية؛ بل وقاعدة «حميميم» الروسية الاستراتيجية بجوار اللاذقية.
الحقيقة أن تركيا مسيطرة تماماً على الفصائل الإرهابية، وعلى إمداداتها من السلاح والذخيرة والتموين والتمويل.
ولو أراد أردوغان تنفيذ «اتفاق سوتشي» لكان قد فعل ذلك بأقل الخسائر الممكنة؛ لكن أطماعه التوسعية في الشمال السوري من ناحية، وحرصه على مصداقيته و(صورته) أمام الفصائل الإرهابية وتيار الإسلام السياسي الدولي من ناحية أخرى، جعلاه يراوغ طويلاً، حتى جاءت الحملة العسكرية الأخيرة فأدرك أن بوتين لن يسمح له بالمراوغة إلى أجل غير مسمى (وكذلك دمشق وطهران)، وأن الكرملين لن يقبل المقايضة أو المساومة على علاقاته الاقتصادية والتسليحية مع تركيا مقابل ترك الإرهابيين يرتعون في إدلب، وهو ما عبّر عنه بوتين بوضوح أكثر من مرة في تصريحاته في قمة أنقرة وبأكثر من صيغة «لا بد من إزالة الإرهاب من إدلب بالكامل» و«لا يمكن ترك إدلب ملاذاً للإرهاب» إلخ.
وهكذا يمكن اعتبار تنفيذ «اتفاق سوتشي» مؤخراً أهم إنجازات قمة أنقرة، وإن كنا نتوقع أن الرئيس التركي سيحاول المماطلة قدر استطاعته، إلا أن الضغط العسكري سيجبره على التنفيذ في نهاية المطاف.
وبالمناسبة، فقد أعلنت وزارة الداخلية التركية أن اللاجئين الجدد من إدلب سيتم ترتيب إقامتهم في مناطق الشمال السوري الخاضعة لأنقرة، وهكذا يتضح أنه لا موجات من اللاجئين ستهدد أوروبا، ولا هم يحزنون، وبالطبع، حينما توافرت الإرادة.
الإنجاز الثاني المهم لقمة أنقرة هو إعلان التشكيلة النهائية للجنة الدستورية؛ بعد الاتفاق على آخر اسم فيها بين بوتين وأردوغان، وهي اللجنة التي قرر تشكيلها مؤتمر الحوار الوطني السوري (سوتشي- يناير 2018) واستغرقت مفاوضات تشكيلها قرابة العامين، وقد تم إبلاغ الأمم المتحدة بتشكيل اللجنة التي ستعمل تحت إشرافها لصياغة دستور للبلاد.
غير أن تعبير «صياغة الدستور» نفسه، يثير مشكلات قد يستغرق حلها سنوات، فدمشق، ومعها طهران، ترى أن عمل اللجنة ينبغي أن ينطلق من إجراء تعديلات على الدستور الحالي، بينما ترى المعارضة التي تدعمها تركيا، أنه يجب وضع دستور جديد كلياً. ولما كان تشكيل اللجنة متوازناً، فإن ترجيح وجهة النظر هذه أو تلك سيكون أمراً بالغ الصعوبة، كما أن من المتوقع نشوب خلافات شديدة حول كل مادة سواء في حالة التعديل أو وضع دستور جديد، وكلها أمور بالغة الحساسية؛ لأنها تتصل بتجديد طبيعة وشكل نظام الحكم ومؤسساته، والعلاقات بينها، وبين القوميات (فيدرالي أو غير فيدرالي) والحريات السياسية.. إلخ
ألقى الرؤساء الثلاثة كلمات قبيل القمة، كما أجابوا عن أسئلة الصحفيين بعدها، وأوضحت تلك التصريحات الاختلافات الواضحة في العديد من القضايا الجوهرية؛ بل والمفاهيم الأساسية، فهناك مثلاً اتفاق لفظي حول وحدة سوريا وسيادتها ورفض تقسيمها، لكن أردوغان يتفق مع زميليه في أن ذلك يعني رفض إقامة كيان كردي، غير أنه لا يرى في اقتطاع مساحات من شمال سوريا أمراً يتناقض مع الوحدة ولا السيادة! كما أنه ألح بشدة على مسألة إقامة منطقة أمنية عازلة شمال شرقي سوريا بعرض (30كم) تسيطر عليها تركيا، دون اعتبار ذلك أنه يعد أمراً يمس بسيادة البلاد، بينما ركز روحاني على تطبيق اتفاق أضنة (1998) الذي يسمح لتركيا بمطاردة المسلحين الأكراد حتى عمق (5 كم) فقط داخل سوريا، وهو ما كان بوتين قد دعا إليه من قبل، غير أنه لم يشر إليه في قمة أنقرة؛ بل أشار إلى تفهم مخاوف تركيا الأمنية دون تأييد لفكرة المنطقة العازلة، أو معارضة لها.
وبنفس المنطق تتحدث تركيا عن مكافحة الإرهاب، وهي تقصد الأكراد، وليس تنظيمي «داعش» و«النصرة»، اللذين تعنيهما روسيا وإيران، وتطالب إيران بخروج القوات الأجنبية غير المدعوة من جانب الحكومة السورية، وهي تعني أمريكا صراحة، وتركيا ضمناً، وكذلك الحال بالنسبة لروسيا.
وهكذا يمكن القول: إن قمة أنقرة الثلاثية قد حققت نتيجتين مهمتين فيما يتصل بإدلب، وتشكيل اللجنة الدستورية مع أخذ التحفظات التي أشرنا إليها بعين الاعتبار، لكن الخلافات والتناقضات القائمة بين مواقف الأطراف، ناهيك عن الوجود الأمريكي في منطقة شرق الفرات ودعمه للأكراد، كلها أمور تحملنا على القول إن الطريق نحو التسوية والسلام في سوريا لا يزال طويلاً.

* كاتب ومحلل سياسي.خبير الشؤون الروسية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"