من يعيد كتابة التاريخ؟

03:16 صباحا
قراءة دقيقتين
يحيى زكي

في منتصف الثمانينات من القرن الماضي صدر كتاب كمال الصليبي الإشكالي «التوراة جاءت من جزيرة العرب»، ومنذ شهور قليلة صدر كتاب آخر أكثر إشكالية بعنوان «التوراة الحجازية» للدكتور محمد منصور. وبين العملين بإمكاننا أن نرسم ملامح تيار بدأ يتشكل في الفكر العربي الراهن. هناك مثلاً مشروع متكامل في الإطار نفسه لفاضل الربيعي، فضلاً عن بضعة أعمال لسيد القمني وزياد مني..إلخ.

تجمع هذه الدراسات على أن أرض فلسطين التاريخية لم تكن يوما مسرحاً لأحداث التوراة، وبناءً على مكتشفات أثرية جديدة في اليمن و الجزيرة العربية، ومقارنات لغوية، تعيد رسم خريطة مختلفة تماما عن كل ما نعرفه واستقر في التاريخ المدون كما تعلمناه، ولكن بغض النظر عن رأي أي قارئ لهذه الأعمال، هناك عدة ملاحظات لا بد من طرحها بعد مطالعة الأعمال.

لقد أثار كتاب الصليبي متابعات جادة في حينها، ولكن في مقابل ذلك لم نجد أي مؤسسة أو جامعة عربية تتابع عمله، من أجل الوصول إلى نتيجة ترفض أو تقّر ما توصل إليه، برغم الأهمية المصيرية لما طرحه، فالمسألة هنا لا تتعلق بتاريخ نعيد قراءته من أجل البحث الأكاديمي، ولكنها ترتبط بقضية العرب الأساسية في العصر الحديث، وهو ما تكرر مع فاضل الربيعي الذي ذهب أبعد من الصليبي، حيث كتب موسوعة عن «فلسطين المتخيلة»، اليمن، وعن «المسيح العربي» الذي عاش في اليمن أيضاً، وفضلا عن ذلك تجول بمنتهى الحرية في التاريخ العربي القديم السابق للإسلام، أي أنه يعيد التأريخ للمنطقة بأكملها، والسؤال المطروح: هل هذه القضايا من البساطة لكي تقتصر على اجتهادات أفراد من المفكرين؟ خاصة وأن البحث العلمي لم يعد منوطاً بدارس يغرق في مراجعه للخروج على البشر بنتائج فارقة تتعلق بتاريخهم، ونحن نعرف جيداً ظروف الباحثين العرب.

تبدو تلك المسائل أكبر من جهد الفرد، مهما اتسعت معارفه، ولا يرضى قارئ تلك الكتب، بأقل من باحث يجيد خمس أو ست لغات معاصرة، ومطّلع على التراث العربي الإسلامي واليهودي والمسيحي، بأكمله: الأدبي والعلمي، الديني والدنيوي، وعلى معرفة موسوعية بالجغرافيا والآثار واللهجات العربية القديمة ولغات المنطقة القديمة والميتة.

إن إعادة كتابة تاريخ بهذا الاتساع والحساسية ليس رفاهية فكرية، ولكنه فضاء يتماس مع السياسة والمعتقدات، والتربية ومناهج التعليم، والشعور القومي الذي نشأ عليه الجميع، ولا يمكن منع البعض من تلك المحاولة، أو الحجر على آرائهم، ولكن المؤسف ذلك الغياب المؤسسي الأكاديمي العربي عن الانخراط في هذه المسائل، حتى ولو من قبيل «الطنطنة التنظيرية» التي يبدو أن جامعاتنا لا تمتلكها في الوقت الراهن.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"