من البيت يولد عصر جديد

04:07 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق

بفضل ثورة الاتصالات، والتقدم الهائل في وسائل التواصل، وبسبب تفشي وباء «كورونا»، يضع العالم حالياً أقدامه على أعتاب عصر اقتصادي جديد يبشر بتحول تاريخي في شكل علاقات العمل، والتوظيف، وحجم المقار التي ستشغلها الشركات، وأماكن انتشارها، ومصير العواصم الاقتصادية الكبرى، واتجاهات هجرة العمالة.
وخوفاً من الوباء، لم يغادر الملايين منازلهم. لكن في ظل تطور وانتشار الإنترنت، ووسائل التواصل السريعة، أمكن لهم القيام بأعمالهم من بيوتهم. وقبل «كورونا» كان الاتجاه للعمل «عن بعد» بدأ ينتشر، إلا أن تفشي الوباء جعله أمراً ضرورياً، ليس فقط لإنقاذ الشركات من الإفلاس، والموظفين من البطالة، ولكن أيضاً لأنه السلاح الوحيد والفعال في المعركة ضد «كورونا»، ووسيلة لا مفر منها لتقليص الخسائر البشرية، والمادية.
وفتح نجاح التجربة عيون الشركات على مكاسب كبيرة يمكن تحقيقها بالإبقاء على موظفيها بعيداً. ويكشف تقرير لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكي عن أن الشركات العملاقة، خاصة في قطاع تكنولوجيا المعلومات، اعتبرت أن تجربة «كورونا» الأليمة كانت مفيدة في هذا الجانب، ولذلك تخطط لاستمرار موظفيها في العمل من بيوتهم بصورة دائمة. وعلى سبيل المثال أعلنت شركة «فيسبوك» أنها ستسمح لنصف موظفيها، البالغ عددهم نحو 50 ألفاً، بالعمل الدائم من المنازل. كما اتخذت «تويتر» قراراً مماثلاً من دون تحديد عدد معين.
ولم يقتصر الترحيب بهذا التطور على الشركات، ولكن الموظفين أيضاً كانوا سعداء به. ووفقاً لاستطلاع لمعهد جالوب، قال نصفهم إنه لو كان الأمر بيدهم سيقررون مواصلة العمل من البيت بعد انحسار الوباء.
ويفيد الاستطلاع بأن سبعة من كل عشرة موظفين أمريكيين ما زالوا يعملون من منازلهم. وأن نسبة العاملين عن بعد، وصلت إلى نصف القوة البشرية العاملة بنهاية إبريل/ نيسان. وإذا تم استبعاد أعداد العاطلين عن العمل سيتبقى 26% فقط من حجم القوة العاملة هي المتواجدة فعلاً في مواقع العمل، ومعظمها في الخدمات الضرورية مثل الأغذية، والصحة، والنقل.
وتظهر دراسة أجراها نيكولاس بلوم، أستاذ الاقتصاد في جامعة ستانفورد، أن الناتج الإجمالي للعمل من البيت شكّل نحو ثلثي النشاط الاقتصادي الأمريكي، في إبريل/ نيسان. وتبين هذه النتيجة حجم الكارثة التي كانت ستواجه الولايات المتحدة لو لم ينتقل العمل إلى المنازل.
ولا تمثل أمريكا حالة استثنائية في هذا الاتجاه، بل إن العديد من الدول المتقدمة تسبقها. ووفقاً لدراسة أجراها معهد ماساشوسيتيس للتكنولوجيا حول التحول للعمل عن بعد في 30 دولة، جاء ترتيب أمريكا الحادي عشر. وتصدرت القائمة لوكسمبورج، ثم السويد، تليها هولندا، ثم كندا، وبلجيكا.
وبطبيعة الحال، لن يكون هذا التحول بلا ثمن، إذ إن هناك مخاوف من نتائج سلبية لبقاء المواطنين في منازلهم فترات طويلة، وبالتالي تزايد الإحساس بالعزلة، والضغط النفسي. كما توجد مخاوف من تراجع الإنتاجية في ظل غياب المنافسة والتفاعل المهني الصحي بين زملاء العمل.
ويتوقع الخبراء، أو بالأحرى يحذرون من تداعيات أخرى، ذلك أن الشركات العملاقة بعد أن تتخفف من عبء استضافة آلاف من موظفيها لن تكون مضطرة للبقاء في مقراتها الضخمة الحالية، ولا في المدن الكبرى ذات التكلفة الباهظة، وستسعى للانتقال إلى مدن أصغر، وأرخص، ما يعني كساد المدن الكبرى التي ستخسر ما تجنيه من ضرائب، فضلاً عن فرص العمل الإضافية التي يوفرها وجود الشركات لسكان المدن في قطاعات الأغذية، والخدمات الصحية، والمواصلات، والإسكان، وغيرها من السلع، والخدمات التي يحتاج إليها موظفو الشركات.
معنى هذا أن خريطة النشاط الاقتصادي في دولة مثل أمريكا، ستتغير بالكامل، وستتبدل مناطق الجذب السكاني، وما دام الموظف يعمل من بيته فلا حاجة له للبقاء بالقرب من شركته، وسينتقل حتماً لمنطقة نائية أرخص كثيراً. وستموت مدن كبيرة، وتزدهر أخرى أقل حجماً، وأهمية. إنه اقتصاد جديد يتشكل في عالم مختلف، كان سيرى النور في كل الأحوال، لكن لحظة الميلاد جاءت أسرع بسبب «كورنا».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"