التفسيرات الثقافية لغياب ريادية الأعمال الابتكارية

22:22 مساء
قراءة 3 دقائق

د. عبد العظيم محمود حنفي *

هناك العديد من الدراسات الأمريكية، ترى أنه ربما كان غياب ريادية الأعمال الابتكارية في أوروبا القارية، واليابان، يعكس ذهنية ثقافية تختلف عن نظيراتها في البلدان الأخرى، ليس الولايات المتحدة وحدها وإنما بلدان أخرى، مثل الصين والهند. فمثلاً، بالنظر إلى الشروط الاقتصادية السيئة التي عايشتها اليابان في العقود الأولى التالية للحرب العالمية الثانية، من المحتمل أن تكون فرص التشغيل مدى الحياة المتاحة في الشركات الكبيرة (وفي الحكومة)، قد تزاوجت مع المزايا الخاصة بالسكن وغيرها من المزايا الاجتماعية للعمل في الشركات الكبيرة، لتخلق بمرور الزمن انحيازاً ثقافياً يفضل الاشتغال عند الآخرين عن النشاط الريادي المستقل، وأن يكون هذا الاتجاه قد تم تمريره للأجيال المتعاقبة.
ويبدو أن هذه النتيجة قد انعكست على معدل تكوين الأعمال الجديدة في اليابان، الذي تراوح على مدى الثلاثين عاماً الأخيرة، بين ثلث ونصف المعدل نفسه في الولايات المتحدة الأمريكية.
كذلك، فإن عدم توفير الحكومة مزايا تقاعد واسعة مماثلة لتلك الموجودة في الاقتصادات الغنية الأخرى، دفع كثيرين ممن بلغوا سن الستين أو اقتربوا منها ولم يعودوا يعملون في شركات كبيرة، إلى التشغيل الذاتي لأنفسهم، وخاصة تملك منشآت تجزئة صغيرة باعتبارها وسيلة لزيادة دخل التقاعد. وهكذا، فإن ثقافة «ريادية الأعمال المقلدة» التي نمت في فترة ما بعد الحرب منبتة الصلة بما تسميها مراكز الدراسات الأمريكية «ريادية الأعمال الابتكارية». وجملة القول في ما يبدو، أن هناك قضية جيدة ومعقولة تقف وراء الافتراض القائل إن الثقافة اليابانية لا تدعم «ريادية الأعمال الابتكارية»، سواء عند العمال الشباب ومتوسطي الأعمار، أو عند أولئك الذين يفترض تقاعدهم ولكنهم منخرطون في ريادية أعمال مقلدة.
ويبدو أن نوعاً مختلفاً من الموقف الثقافي غير المواتي «لريادية الأعمال الابتكارية»، قد ساد في أوروبا. فهناك أيضاً قادت صدمة سنوات ما بعد الحرب جيلاً من العمال إلى تفضيل التشغيل المريح والمستقر في ما يبدو، بالعمل لدى الشركات الكبرى ثم انتقل هذا الموقف إلى أبنائهم. بيد أن المشكلة التي يواجهها كثير من الأوروبيين اليافعين، تتمثل في أن الشركات الكبيرة لم تعد توظف في السنوات الأخيرة. ويرجع جزء من السبب في هذا إلى حقيقة الصعوبة البالغة في ظل القانون؛ لأن تقدم هذه الشركات على فصل أي مستخدم جديد، بسبب عدم الكفاءة أو انعدام المسؤولية. ومن حيث المبدأ، قد يفكر المرء في أن البيئة الاقتصادية القاسية قد تشجع كثيراً من شباب العمال على البحث عن أدوار في ريادية الأعمال. وربما كان النفور من المجازفة والمنافي لريادية الأعمال أكثر وضوحاً في فرنسا، حيث أفادت بعض المسوح بأن معظم الشباب الفرنسي يفضل الوظائف الحكومية بسبب التأمين الذي توفره مدى الحياة. وهناك موقف ثقافي آخر يشترك فيه الأوروبيون واليابانيون، يتمثل في العداء الواضح للتطرف في اللامساواة بين الدخول (وإن لم يتعلق هذا بالثروة الموروثة).
فمثلاً، من الملاحظ تماماً أن فارق الأجور بين العمال العاديين وكبار المديرين في الشركات الأمريكية، هو أكبر بكثير. وينمو أيضاً بسرعة أكبر من اليابان وأوروبا. وبمعنى ما، فإن ضيق فوارق الدخول في الاقتصادين الأخيرين قد يجلب لهما فوائد اقتصادية، وذلك لشعور العمال على الأرجح بأنهم في القارب الاقتصادي الواحد ذاته مع مديريهم طالما كانت الأجور أكثر تقارباً، ومن ثم يرجح أكثر أن يفكروا في أهمية التحسينات المدخلة من جانبهم على الإنتاجية. (وهو الأمر الذي اشتهرت به الشركات اليابانية)، أو يقبلوا التحسينات التي تدخلها الإدارة، ولكن هذا الأثر المفيد لضيق فجوة الأجور، قد يولد مشاعر سلبية تجاه رياديي الأعمال الذين يحققون أرباحاً غير عادية من مشاريعهم. وقد لاحظت دراسة في جامعة كولومبيا أن الأوروبيين بوصفهم أفراداً ومسؤولين منتخبين، ينظرون بريبة للمشاريع التي تحقق أرباحاً عالية، ولأولئك الذين يفترض أنهم يتربحون منها. أما في اليابان، فالتوقعات أن توجد مواقف مشابهة أيضاً، وذلك بالاستناد إلى ثقافة التوافق هناك.
*أكاديمي مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"