أمي الحبيبة

00:23 صباحا
قراءة دقيقتين

شارفت على الخمسين عاماً، ولم أشاركك الحياة سوى السبع سنين الأولى من عمري، لترحلي بعدها وتتركيني وحيداً، وهذا حكم القدر ولا اعتراض على قضاء الله تعالى، بكيت حينها كطفل يرنو إلى ذاك الحضن الدافئ، وإلى الصوت الذي يردد دائماً مهما عصفت الظروف «كل شيء سيكون على ما يرام يا بني».
كنت سابقاً أظن أن الأيام ستنسيني ألم الفراق، وأن مشاغل الحياة ستسرقني من بين أحضان الذكريات، لكن كلما مرّ يوم كان شوقي إليها يزيد، وتختلج في صدري كلمات كثيرة لا أستطيع البوح بها سوى لأمي الحبيبة.
صرت كلما رأيت شخصاً مع أمه تبسمت له وقلت: «دير بالك عليها»، وكلما رزقت بمولود جديد تذكرتها كما لو كانت على قيد الحياة، وتخيلت مشاعرها الجياشة وقد صار عندها أحفاد صغار، وكيف سيناديها أولادي عندما يكبرون «يا جدتي»، ولم تكتفِ مخيلتي الخصبة بذلك، بل تخيلت أبنائي وقد تخرجوا في جامعاتهم وتزوجوا وأنجبوا أطفالاً أصبحوا بمثابة أحفاد أحفادها، وكيف ستشعر حينها، وكم سيحبونها بدورهم.
وذات يوم، اتصلت بأحد أصدقائي في المساء بخصوص أمر ما، وسألته إن كان مشغولاً، فرد عليّ بأنه مع والدته يتبادلان أطراف الحديث، فقلت له: «حسناً نتحدث غداً»، ثم أغلقت هاتفي وجلست أتخيل حواراً يدور بيني وبين والدتي، كما لو أنها حاضرة، حيث أحدثها عن حياتي وعما يشغل بالي، وكيف ستكون ردة فعلها وماذا ستقول لي.
كانت تلك السيناريوهات الجميلة جزءاً مما أفكر فيه بصورة منتظمة، حتى بعد وصولي إلى هذا العمر، ولما سألت اليوم أحد كبار السن ممن تعدوا التسعين عاماً: «هل تشتاق إلى أمك وأنت في هذا العمر؟» ويا ليتني لم أسأله، دمعت عيناه وقال بحرقة أشبه بنار في الفؤاد لا تطفئها السنين: «نعم أشتاق لها كل يوم».
لم أكتب هذه المقالة لأشتكي فراق أمي، فدعائي لها بالرحمة والمغفرة يكاد لا يفارق لساني دوماً، بيد أنني كتبتها لأوصل رسالة لكل الأبناء بأن الأم والأب لا يعوضان أبداً، فلا تجعلوا مشاغل الحياة عذراً لتركهما أو مجافاتهما أو عدم زيارتهما.
فكما أن لك روتيناً يوميّاً يقتضي ذهابك إلى العمل، فلا بد أن يكون لك روتين يومي مخصص لزيارة أمك وأبيك والاطمئنان عليهما؛ لأنه إذا رحل أحدهما عن هذه الدنيا، فلن تنفعك أعمالك ولا مشاغلك، وستندم بعدها على كل لحظة لم تعشها برفقتهما أو تتحدث إليهما خلالها.
فاستغل الفرصة الآن، لتكون معهما، وتسهر على رعايتهما، وتبر بهما، لأن بر الوالدين دين سيسدده لك أبناؤك، فإن كنت غافلاً عنهما فسيغفل عنك أبناؤك مستقبلاً.
فيا رب ارحمهما كما ربياني صغيراً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"