عادي
يسلط الضوء على مستقبل مظلم بسبب تصرفات البشر

«فينش».. خيال علمي فلسفي بروح كوميدية

00:25 صباحا
قراءة 5 دقائق

مارلين سلوم
حين تشاهد أداء فئة من الفنانين تشعر بأنك أمام معجم يفصّل معنى وروح كلمتي «نضج» «وموهبة». لا يمكنك مثلاً أن تترك فيلماً لتوم هانكس يمر من دون أن تسرع لمشاهدته، ولا يمكنك أن تشاهده من دون أن تعيش حالة مختلفة تتأمل فيها اكتمال النضج والموهبة لدى ممثل صار وحده يكفي لتقديم فيلم من ألفه إلى يائه، ينجح فيه ومعه، بل يتفوق، واللافت أنه مهما طال الفيلم لا تشعر بذرّة ملل. هانكس صار رائداً في أفلام «البطل الواحد»، ويقدم في فيلم «فينش» الجديد على منصة «أبل»، تجربة مميزة، مختلفة بكل ما فيها، ممتعة للمشاهدة، وربما تحمل للنجم الأوسكار الثالث.

لا ينجح ممثل في فيلم إذا لم تكتمل فيه ركائزه الأساسية: الكتابة والإخراج، وبلا شك التصوير. قد يتفوق أحدها على الآخر، لكن قدرات الممثل وحدها لن تكفيه إذا لم يجد مؤلفاً يكتب نصاً فيه رائحة الإبداع، ومخرجاً صاحب رؤية فنية ترفع من شأن العمل وكل عناصره. القصة هنا جيدة وجديدة، المؤلفان، كريج لاك وإيفور باول، يفترضان ما الذي سيحصل في العالم إذا وقع انفجار شمسي؟ كيف تستمر الحياة على كوكبنا؟ وكيف تكون رؤية الإنسان للمستقبل؟ ورغم تميز القصة، إلا أن رؤية المخرج ميجيل سابوشنيك تفوقت على النص، خصوصاً من حيث تصوير العالم الافتراضي بشكل ملموس وواقعي تصدقه وتتفاعل معه. خيال علمي لا تستغرب أن تراه حقيقياً في المستقبل، وما زاده قرباً من الواقع هو التصوير السينمائي الرائع لجو ويليمز، الذي يشدد على إظهار الجمال في المناظر الطبيعية حتى وسط الدمار، وحالة القلق والترقب.

النجم الأوحد

فينش، هو توم هانكس، ليس اسم الفيلم فقط يرتبط بالبطل، بل كل العمل مفصّل ليكون هانكس نجمه الأوحد، ونراه أمامنا طوال الساعة و55 دقيقة، باستثناء لقطات يغيب فيها عن أعيننا. هو رجل يرتدي زياً يشبه زي رجل الفضاء، الحرارة في الخارج 65 درجة مئوية، و«الخارج» هو مكان مهجور، الرمال غطت الأماكن، وهجّرت الناس من بيوتها. فينش يبحث عن معلبات وغذاء وطعام للكلاب، وخلفه يمشي روبوت بلا رأس. وفينش واينبرج الذي كان مهندساً إلكترونياً ناجحاً يعمل في إحدى الشركات الكبرى، يفكّك ويعيد إصلاح الأجهزة الالكترونية، صمم روبوتاً صغيراً أطلق عليه اسم «دوي»، يرافقه في كل مكان بحثاً عن الطعام. يعيش فينش والروبوت ومعه كلب صغير أطلق عليه اسم «جوديير»، في مختبر ومنزل تحت الأرض مجهز بكل الوسائل التقنية والتكنولوجية.

فينش واينبرج العبقري صمم الشاحنة التي تقله مع صديقيه لتكون ملجأهم الدائم من أشعة الشمس فوق البنفسجية. ونفهم لاحقاً أن انفجاراً شمسياً حصل فأحدث دماراً مخيفاً في الأرض، لذلك لا وجود للخضرة والشجر، ولا المياه، ولا الكائنات الحية. فينش يعيش تحت الأرض في منزل أشبه بالمختبر الكبير، يقوم بتطوير الروبوت «دوي» ليصبح رجلاً آلياً طويلاً، ويستخدم الكتب والموسوعات الكثيرة الموجودة في مكتبته الضخمة من أجل تصوير المعلومات منها، وتحميلها في شريحة يضعها في رأس الرجل الآلي. ونظراً للظروف الصعبة، يعيد فينش تدوير الكتب التي انتهى من نقل كل المعلومات منها إلى الروبوت، فيصنع منها محارم ورقية.

ينجح الاختراع، وينطق الرجل الآلي الذي يطلق عليه لاحقاً اسم «جيف» (يجسده بالصوت كاليب لاندري جونز)، لكن بسبب اقتراب عاصفة جديدة تهدد سانت لويس، حيث يسكن فينش، وستدوم 40 يوماً كما تخبره الآلة الالكترونية التي يحملها معه باستمرار، يقرر مغادرة المكان خلال 24 ساعة، ورغم عدم اكتمال تخزين كل المعلومات في رأس الرجل الآلي «جيف»، يدربه على الوقوف والمشي ثم يغادر مع جوديير ودوي وجيف بشاحنته المجهزة بألواح للطاقة الشمسية. هل هي نهاية العالم؟ وأين اختفى سائر البشر، وكيف صمد هذا الرجل وحده بعد الانفجار الشمسي الذي جعل الأشعة فوق البنفسجية قريبة من الأرض، وبالتالي أي كائن حي يخرج في النهار يحترق بها؟ فينش يخبر الروبوت ما حصل، ولماذا يتنقل في النهار، علماً بأن الليل أكثر أماناً، من احتمال الاحتراق أو الاختناق، من الرمال والشمس، قائلاً إن الكوارث الطبيعية لن تقضي على البشر، بل هم يقضون على بعضهم بعضاً، فهناك من السكان من لا يزال حياً، وأي حركة في الليل يشعرون بها سيسعون لسرقة المأكولات وقتل الإنسان. الفيلم فلسفي غني بالتفاصيل المهمة والمغامرات، هو خيال علمي بروح كوميدية محببة، ومواقف طريفة.

مذهل توم هانكس. كيف يستطيع التفاعل والتعبير عن مشاعره وكل مخاوفه وتقلباته النفسية وعواطفه وأحزانه وأفراحه، وهو يحاور نفسه فقط، أو يحدّث آلة، أو يتعامل مع حيوان. وهي ليست التجربة الأولى إذ سبق أن شاهدناه يواجه مواقف مشابهة أكثر من مرة، منها فيلم «كاست أواي» حيث يتعرض لحادث طائرة فيجد نفسه على جزيرة نائية، ويعيش عليها وحيداً. لديه قدرة عجيبة على التمثيل والتعبير والتفاعل أمام الكاميرا مع الأشياء، تماماً كتفاعله مع البشر، لا يحتاج إلى ممثل آخر يتحرك أمامه ويتفاعل معه كي يستمد منه ويعطيه الإحساس الحقيقي الذي يتطلبه أي دور، وأي حوار. هو توم هانكس، الممثل المكتفي بكل طاقته وبأدواته، والذي يكفي العمل ويحركه فتتحرك مشاعرنا معه ونتعاطف ونتفاعل، وبدورنا نكتفي به من دون انتظار أية إطلالة لممثل آخر، ومن دون انتظار أي حضور أنثوي بجانب البطل كي يكتمل المشهد وتكتمل القصة. ميزة لا نجدها إلا في ما ندر من الممثلين، وصار هانكس رائدها في السينما العالمية.

قدرة مثيرة

في المقابل، يُظهر الممثل كاليب لاندري جونز، قدرة مثيرة للإعجاب في تحميل صوت وحركات الروبوت جيف مشاعر، ومواقف وملامح يرسمها بنبرة الصوت وتقلباته، ويجعل الآلة «إنسانية» تعرف كيف تتعاطف مع الإنسان، وتحتضنه وتمنحه كما تمنح الكلب الراحة والمرح والدعم.

كثيرة هي العبارات التي يمكن التوقف عندها والتي تحمل رسالة الفيلم بشكل مباشر، مثل قول فينش إن «الأشياء التي لا نتوقعها والمواقف التي نمر بها فجأة هي التي تحدد هوية الإنسان وشخصيته ومن يكون».. ثم قوله «الحرارة والبرودة وتقلبات الطبيعة والمناخ يمكن توقعها، لكن تصرفات البشر لا يمكن توقعها».. «التجربة البشرية هي أن تعيش وتحسّ بالأشياء، لا أن تعرف عنها معلومات فقط».. باختصار، هو فيلم يسلط الضوء على المستقبل المظلم الذي سيصل إليه البشر بسبب أفعالهم، وأن الرجل الآلي أفضل من الإنسان، لا يغدر ولا يقتل، خصوصاً أن مخترع الآلة علّمها قائمة الممنوعات وحدد لها الأولويات التي على رأسها البند الأول: لا يستطيع الروبوت أن يؤذي إنساناً، فالتزمت ولم تخرج على القواعد كما يفعل الإنسان الذي يتسبب بنفسه بفناء جنسه على الأرض.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"