فرنسا ومرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية

21:18 مساء
قراءة 5 دقائق
5

د. جاسم المناعي *

إن إعادة انتخاب إيمانويل ماكرون بفارق مهم عن منافسته مارين لوبان في الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة، لا يعني مع ذلك أن حكم ماكرون لفرنسا خلال السنوات الخمس القادمة سيكون مفروشاً بالورود.

في الواقع إن هناك كثيراً من المعطيات التي تشير إلى أن أمام ماكرون طريق صعب وقد يكون شائكاً مقارنة بالسنوات الخمس الماضية. إن أهم هذه المعطيات هو تزايد نسبة غير المشاركين في الانتخابات الأخيرة، حيث بلغت نسبتهم 26% مقارنة بنسبة 22% في الانتخابات السابقة عام 2017.

وارتفاع هذه النسبة إن دل على شيء فإنه يدل على عدم قناعة شريحة مهمة من الشعب الفرنسي بالسياسة الفرنسية المتبعة خلال الخمس سنوات الماضية. صحيح أن ماكرون قد فاز بنسبة مهمة مقارنة بمنافسته، إلا أنه خسر أكثر من مليوني صوت في هذه الانتخابات مقارنة بالانتخابات السابقة.

ولا بد كذلك من الإشارة إلى أنه حتى الذين صوتوا لماكرون في الجولة الثانية ليسوا بالضرورة من المقتنعين بسياسة ماكرون أكثر من كونهم يسعون بهذا التصويت إلى منع وصول مرشحة اليمين المتطرف إلى سدة الرئاسة. كذلك من المعطيات المهمة الأخرى في المشهد السياسي الفرنسي والذي لا بد لماكرون من أخذه في الاعتبار هو التصاعد اللافت لشعبية الأحزاب المتطرفة، سواء كانت يمنية أو يسارية، حيث إن هذه الأحزاب مجتمعة تمثل ما يفوق على ما حصل عليه ماكرون وبالفعل فقد حصلت هذه الأحزاب على نسبة كبيرة من الأصوات تزيد بكثير عما حصلت عليه في الانتخابات السابقة، وهذا يؤكد تزايد شعبيتها.

إن إشكالية هذه المعطيات أمام رئاسة ماكرون القادمة سوف تنعكس أيضاً وقريباً في الانتخابات التشريعية الشهر القادم والتي قد تمثل عقبة كبيرة أمام ماكرون في إدارته للسياسة الفرنسية خلال السنوات الخمس القادمة،والتي قد تضطره إلى القبول ببعض التنازلات لضمان سير الأمور ليس بالضرورة تماماً حسبما يريد، لكن أخذاً في الاعتبار الثقل الانتخابي المتزايد للأحزاب الفرنسية الأخرى والتي قد لا يكون متفقاً معها تمام الاتفاق.

إن المعطيات التي أفرزتها الانتخابات الفرنسية الأخيرة قد تؤثر أيضاً في التشكيلة الوزارية الجديدة بدءاً من اختيار رئيس الوزراء الجديد والذي لا بد أن يكون في وضع يسمح له بالتصدي للمشاكل التي هي وراء عزوف بعض الفرنسيين عن المشاركة في الانتخابات، أو تلك التي أعطت الحجج والشعبية للأحزاب المتطرفة مثل موضوع القوة الشرائية وسن التقاعد وموضوع المهاجرين وفرص العمل.

وبشكل عام فإن مهمة الرئيس ماكرون لن تكون سهلة، حيث إن الأحزاب اليمينية واليسارية المتطرفة لها أجندات ليست بالضرورة متطابقة مع توجهات الرئيس ماكرون، وأن هذه الأحزاب تستند وفقاً لنتائج الانتخابات الأخيرة إلى عدد كبير من أصوات الشعب الفرنسي. ولذلك فقد لا نستبعد أن يجد الرئيس ماكرون في أكثر من مناسبة نفسه في مأزق من شأنه إذا لم يفشل عمل حكومته فقد يشل من حركتها ويضعف من إنجازاتها.

وهذا ما يمكن أن يحدث في حال لم يتمكن ماكرون خلال الانتخابات التشريعية الشهر القادم من الحصول على أغلبية برلمانية. ففي هذه الحالة ووفقاً للدستور الفرنسي فإن عليه أن يختار رئيس وزراء من الأحزاب التي حصلت على الأغلبية البرلمانية والاحتمال في هذه الحالة أن يكون رئيس حزب فرنسا الأبية اليساري الراديكالي جان لوك ميلانشون هو الأوفر حظاً لتولي رئاسة الوزراء، الأمر الذي سيجعل من مهمة ماكرون أكثر صعوبة وأكثر تعقيداً إن لم تكن مستحيلة.

هذا على الصعيد الداخلي ولكن أيضاً على الصعيد الخارجي، فإن تصاعد نفوذ الأحزاب المتطرفة من خلال تمثيلها في المجالس التشريعية من شأنه كذلك أن يحد من سياسة ماكرون على الصعيد الأوروبي وعلى الصعيد العالمي.

لذلك لا ينبغي أن نستغرب إن وجدنا بعض التغيرات على سياسة فرنسا الخارجية نتيجة لهذه التطورات الانتخابية. الأهم من كل ذلك هو مستقبل السياسة الفرنسية داخلياً وخارجياً في ظل هذا التطور المتصاعد للأحزاب المتطرفة. وفي الواقع فإن هذه الظاهرة لا تقتصر فقط على فرنسا بل تنسحب أيضاً على عدد ليس بالقليل من الدول الأوروبية.

والمجموعة الأوروبية بدأت بالفعل تعاني هذه الظاهرة، حيث إن بعض أعضائها مثل المجر وبولندا لا تبدو بأن سياساتها متطابقة تماماً مع بقية أعضاء المجموعة. هذا كما أن بقية الدول مثل إيطاليا وإسبانيا وحتى ألمانيا بدأت فيها نزعات الأحزاب المتطرفة في تزايد لافت. وبالتأكيد فإن هذه التطورات تطرح تساؤلات عدة حول مستقبل الأوضاع في الدول الأوروبية وهل تستطيع الاستمرار في سياسة التكامل والتنسيق كما رسمها أوائل الرؤساء الأوروبيون مثل هلمت كول الألماني وفرنسوا ميتران الفرنسي، أم أن الجيل الجديد من الشعوب الأوروبية سيكون له رأى آخر في مستقبل بلدانهم. وسواء تحدثنا عن فرنسا أو ألمانيا أو إيطاليا أو غيرها من الدول الأوروبية فإنها حسبما يبدو مقبلة على أوضاع سياسية جديدة تختلف وقد تتعارض مع الأنماط التقليدية للحكم الذي عهدته هذه البلدان خلال العقدين أو الثلاثة عقود الماضية. ولا بد للمجموعة الأوروبية وفقاً لذلك من الإعداد المبكر لهذه المرحلة وذلك بمراجعة سياساتها الحالية وجعلها تتجاوب أكثر مع طموحات وتطلعات شريحة أوسع من شعوب هذه المنطقة.

إن حركة التذمر على المجموعة الأوروبية قد بدأت في الواقع منذ فترة ليست بالقصيرة بدءاً من انسحاب بريطانيا ومروراً بالمواقف المنفردة لدى بعض دول المجموعة مثلما هو حاصل مع المجر وبولندا، إضافة إلى النزعة والعداء المتصاعد لدى الأحزاب السياسية الشعبوية في عدة دول مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا ضد منظومة المجموعة الأوروبية. هل تستطيع فرنسا وأوروبا بشكل عام مواجهة هذا التحدي من خلال إجراء المراجعات والتعديلات اللازمة على قوانينها وتشريعاتها، لكي تتمكن من استيعاب هذا السخط والتذمر المتنامي أم إنها سوف تنتظر ساعة الحقيقة والتي تنفجر فيها الأمور بشكل يفكك ويقسم بلدان المجموعة بين مؤيد ومعارض، الأمر الذي من شأنه أن يضعف أكثر من وضع هذه المجموعة. هذا إذا لم يؤد إلى فشل مشروع التجمع الأوروبي والعودة إلى نقطة البداية من حيث تكريس الحدود الجغرافية لكل دولة والتخلي عن العملة الموحدة اليورو واستبدالها بالعملات الوطنية قبل 1999.

قد يكون مثل هذا السيناريو مستبعداً حالياً، لكن تطورات الأوضاع السياسية سواء في فرنسا أو في بقية دول المجموعة الأوروبية لا تبدو مريحة بالنسبة للترتيبات القائمة حالياً ومن الضروري البحث عن صياغة جديدة لهذه الترتيبات بشكل يسمح باستيعاب النزعات والتململ المتزايد ويجنب بالتالي التجمع الأوروبي التصدع، ومواجهة المصير المجهول. هل فرنسا وبقية الدول الأوروبية قادرة قبل فوات الأوان على كسب الرهان والتقدم برؤية جديدة لهذا التجمع يتفق وينسجم أكثر مع تطلعات غالبية شعوبها بأطيافه وتوجهاته السياسية المتعددة؟ هذا ما سيتضح خلال السنوات القليلة القادمة.

* الرئيس السابق لصندوق النقد العربي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"