عادي

الحرف.. هندسة الجمال

23:23 مساء
قراءة 3 دقائق

الشارقة: عثمان حسن

لقد كانت تجربة كتابة المصحف الشريف عند الخطاطين المسلمين واحدة من المآثر التي يعتز بها الخطاط، بوصفها من أهم الإنجازات التي تترك أثراً روحياً ودينياً كبيراً، فهي ذات صلة بكتاب الله المعجز، فأبدع كثير من الخطاطين مصاحف كثيرة في كل أنواع الخطوط المعروفة، ولعل المدرسة التركية، على وجه الخصوص، كانت الأبرز في هذا المجال، نظراً لتنوعها، ودمجها بين أكثر من نوع من أنواع الخطوط في الصفحة الواحدة، واعتماد الخطاطين أساليب وطرائق فنية لم تكن معروفة من قبل.

من هؤلاء الخطاطين يبرز اسم أحمد قره حصاري (1468 – 1555) الشهير بمصحفه المكتوب على الطريقة البغدادية، أي طريقة ياقوت المستعصمي، وقد أهداه للسلطان سليمان القانوني.

ما يميز هذا المصحف، أنه كتب بطريقة غير معهودة، فقد كانت الصفحة الواحدة من المصحف مقسمة إلى خمسة أقسام وكل قسم يشتمل في الأغلب على نوع واحد من الخطوط، مع قابلية التبديل والتغيير، وحرية الخطاط في اختيار النوع الذي يريده في الصفحة الثانية، أو الثالثة، وهكذا.

في مصحف قره حصاري، كان يبدأ صفحته بسطر من الخط المحقق، كما هو في البسملة الظاهرة، وفي الجزء الثاني من الصفحة يكتب خمسة أسطر بالنسخ، (وهو خط نسخي مكتوب بأسلوب قرة حصاري نفسه، مارسه ياقوت واختفى –كما يؤكد الخبراء- بعد وفاة ياقوت بفترة قصيرة).

يليها سطر بالثلث كما هو موضح في الآية القرآنية التي تبدأ ب: «ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون..» وفي السطر الرابع كتب حصاري بالنسخ مبتدئاً بالآية الكريمة: «ومن خفت موازينه..» ثم أنهى الصفحة بالمحقق، وهو الخط الذي بدأ في هذا القسم، مبتدئاً بتتمة الآية القرآنية «إنك من الصاغرين»، مع العلم أن الآية تبدأ ب«وما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين» والتي ظهرت في نهاية النص في السطر الرابع.

مدرسة

هذه المدرسة التركية في كتابة المصاحف كانت تعنى بهندسة شكل الحرف، اعتماداً على حقيقة أن الخط في نهاية المطاف هو صورة الكتابة، وهو المفهوم الجمالي الذي ساد عند كثير من الخطاطين الأتراك، واعتمد حصاري أسلوب ياقوت البغدادي في هذا المصحف الشريف، فقد أسس ياقوت وتلامذته الأقلام الستة، وميزوا بعضها عن بعض، بتعيين أشكالها الواضحة، وتقعيد قواعدها الخاصة على نحو مستقل في (المحقق والريحاني والثلث والنسخ والرقاع والتواقيع)، وأبرز ما يميز هذه المدرسة جمعها لأكثر من خط واحد في صفحة واحدة، كما هو في مصحف قره حصاري، إلى جانب استخدام نوع واحد من الخطوط في القسم المخصص له، وهكذا، وهذا كان يضيف الكثير من الجماليات لفن الخط.

تميزت صفحات مصحف قره حصاري بخصائص فريدة من الزخرفة والتذهيب، وقام بها فريق خاص تابع للسراي العثماني، على أسلوب الفنان المعروف (قره ميمي). ويبلغ مجموع الوحدات الزخرفية الجانبية التي تعرف باسم (الكرسي/ الكتف أو قولطوق بالعثمانية) 2360 قطعة، وهي التي تكون عادة على يمين ويسار سطور خط النسخ. كما نجد زخرفات مختلفة في الصفحة التي تكون عادة في أول المصحف وآخره، وكذلك في صفحتي (سر لوحة)، وهما الصفحتان الأوليان اللتان تضمان سورة الفاتحة والآيات الأولى من سورة البقرة، كما نرى التذهيب في عناوين السور، واللافت للنظر في هذا المصحف الفخم الذي أنجزه حصاري كثرة الوحدات الزخرفية مع اختلاف أنماطها وتصاميمها. فقد عمد فريق التذهيب الخاص بالمصحف إلى عدم تكرار التصميم ذاته، والألوان ذاتها، ما يجعله بحق تحفة فنية غنية بالزخارف التي لا مثيل لها..

التزم قره حصاري ما كان سائداً في المدرسة التركية في كتابة المصحف الشريف، وهي المدرسة التي تميزت بأسلوبين، أو اتجاهين، الأول، هو الاتجاه التوقيفي، أو المتوقف على النهج اللغوي، الذي كان يلتزم ما أملاه الصحابة الكرام في المصحف الإمام (مصحف الخليفة الراشد عثمان بن عفان، رضي الله عنه) وهو نوع يعنى بالكيفية اللغوية الثابتة لصور (الكلمات) الخطية، ويعرف هذا الاتجاه برسم المصحف، والثاني هو اتجاه جمالي، يعنى بهندسة شكل الحرف ووضعه في (الكلمة) أو (السطر).

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mvz8bdv4

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"