عادي

الفلسفة تضع العقل على أعتاب الجنون

20:18 مساء
قراءة 3 دقائق
1

القاهرة: «الخليج»

يحكي الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدجار موران في كتاب "مغامرة المنهج"، ترجمة أيمن عبد الهادي، تفاصيل مغامرته المعرفية المشوقة التي أنتجت مشروعه الفكري الأساسي؛ كتاب "المنهج" الذي صدر في ستة أجزاء، وأمضى 35 سنة في كتابته، وهي مسيرة طويلة واجه فيها هذا المفكر فترات من الإحباطات، كما عرف خلالها نوبات من الحماس كانت كما كتب: "مثل المخاض بكل ما يشهده من عذاب شديد وأفراح كبيرة".

تؤكد سيرة كتاب "المنهج" كما عرضها موران في هذا العمل أهم الأفكار والمقولات التي أنتجها، وتبرز دعوته إلى الدمج بين المعارف وتحذيره من مخاطر الأخطاء، والوهم، والمعرفة المختزلة أو المشوهة، ورغبته في اكتشاف أوجه النقص التي تشوب أنماط معرفتنا. وقد تضمّن الكتاب ملحقاً بعنوان من أجل عقلانية منفتحة؛ وهو فصل يضم خلاصة رؤية موران التي استقرت في عدد من مؤلفاته، والتي طالب فيها بما أسماه "إعادة تنظيم العقلانية".

  • أسئلة

يشير إدجار موران إلى أن كانط صاغ الأسئلة الأولى، وهي أسئلة طفولية وناضجة، أنثروبولوجية، علمية وفلسفية في الوقت ذاته، قائلاً: "هذه الأسئلة واجهتُها في مسيرة حياتي الطويلة، ما الذي بوسعي أن أعرفه؟ وما الذي يجب علي فعله؟ وأي شيء مسموح لي أن أتمناه؟ وللوقوف على المعنى من حياة عمل ما والمعنى وراء حياة ما، ولكي أفهم ذاتي وأفهم مغامرة خمس وثلاثين سنة قدمت فيها ستة أجزاء من كتاب "المنهج" يلزمني الرجوع إلى فترة زمنية بعيدة جداً، حين طوّقتني الأسئلة في نهاية مرحلة طفولتي البالغة القسوة والتي لم تكف من حينها عن ملاحقتي".

أثناء بلورة "المنهج" فكّر موران أن يجيب من خلال تجربته الجديدة والقديمة عن تساؤلات كانط، ورغم ذلك تعرّض مشروعه لانعطافة، إلى أن منحته جامعة نيويورك الشروط الضرورية للشروع في كتابة المقدمة العامة للمنهج، كانت هذه المقدمة العامة مثل نواة احتوت العمل كله بشكل افتراضي، وتوقع آنذاك أن يكون الكتاب في جزء واحد، واعتقد أنه يلزمه ثلاثة أعوام حتى ينتهي من كتابته لكنه قال: "بمجرد عودتي إلى باريس بعد انتهاء إقامتي في نيويورك شعرت كأن الشلل أصابني، فقد صرت عالقاً في حياة يومية سلبتني فيها اللقاءات والالتزامات التي لا تنتهي والتي لم أستطع الفكاك منها الطاقة اللازمة للانطلاق".

في الملحق الخاص وعنوانه "من أجل عقلانية منفتحة" يوضح موران أن العقل في أعماقه يتضمن لا عقلانية مستترة، ويتحول العقل إلى الجنون حين تنطلق هذه اللاعقلانية وتصير مهيمنة على العقل وتقوده؛ أي حين يتحوّل العقل ليصير انفلاتاً يفتقد المنطق، ويحدث خلال هذا ما أسماه هوركهايمر وأدورنو تدميراً ذاتياً للعقل، في الواقع حين تختفي النزعة الإنسانية وفضيلة التفكير النقدي ينطلق العنف الكامن المتضمن في العقل على شكل قوة من النظام والتجانس.

يصير العقل جنوناً حين يصبح أداة للسلطة، وممارسة النفوذ، والتغطرس، وعمليات السيطرة، وغاية ذلك كله في الوقت ذاته؛ أي حين لا تتوقف العقلانية عن أن تكون أداة للقوى ولعمليات السيطرة الوحشية فقط، لكن أيضاً حين تتسم هي في ذاتها بالوحشية وتعمل على تكريس نظام ذي طبيعة آلية شمولية يعتبر أي شيء يخل به من قبيل الخبل أو الإجرام.

ويقع الجنون حين تصير كل هذه العمليات من التبرير العقلاني التي هي في ذاتها غير عقلانية بشكل مباشر أو غير مباشر عمليات تقود بلا هوادة إلى الموت، بوسعنا هنا أن نرى أن العقلانية الاقتصادية تعرض المحيط الحيوي لخطر الموت، وأنه حتى العقلانية العلمية قد أوجدت تهديداً نووياً من شأنه أن يُبيد البشرية.

  • فوضى

يوضح موران أن الأمر لا يتعلق باكتشاف ما بالعقل من جنون فقط، فلا بد من إدراك ما بالجنون من عقل أيضاً؛ مثل الغموض، والتناقض، والتقابل بين الحكمة والجنون، فهي موضوعات أثيرة في الفكر الغربي، وكان لا بد من التوقف عند العقلانية الحديثة وفهمها حتى يمكن إجراء تقابل بين هذه المفاهيم. ويذكر موران أنه كان على الجنون أن يلعب في مجاله الدور نفسه الذي تلعبه الفوضى في "مبادئ العلم الجديد"؛ أي الدور الرئيسي في كل اكتشاف وابتكار وإبداع، وبالتالي في المستقبل وما يشهده من تطور.

إن الجنون هو الأصل، كما قال نيتشه الذي قال أيضاً: "في كل مكان تقريباً الجنون هو الذي مهّد الطريق للفكرة الجديدة، وتخلّص من العادة ومن الخرافة المبجلة". وكان أفلاطون قد قال من قبل: "إن الجنون هو ما جلب كل المنافع على اليونان".

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdema2h2

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"