بين الأحادية والعولمة

21:43 مساء
قراءة 3 دقائق

داني رودريك *

ازدادت المخاوف بشأن أوجه القصور في الحوكمة العالمية وإضعاف التعددية في السنوات الأخيرة، لأن الولايات المتحدة وغيرها من الاقتصادات المتقدمة تولي أجنداتها المحلية، على نحو متزايد، المقام الأول. حيث سيطرت النُّهُج الأحادية الجانب على التجارة، والسياسات الصناعية، والتحول المناخي. كما تقلص دور منظمة التجارة العالمية، وهي الإنجاز الأبرز للحوكمة العالمية في عصر العولمة المفرطة الذي بات خلفنا، إلى مجرد متفرج لا حول له ولا قوة.

ومن الواضح، بالنسبة لأنصار العولمة، أنها أخبار سيئة. لكن فيما يخص الاقتصاد العالمي، فإن العواقب أقل وضوحاً، وربما تكون مفيدة. ففي عالم تركز فيه الحكومات الوطنية على ازدهارها المستدام وتماسكها الاجتماعي، سيكون الاقتصاد العالمي على ما يرام. وبالتدقيق، يتبين أن قضية الحوكمة الاقتصادية العالمية أضعف بكثير مما هو مفترض مسبقاً.

لنبدأ من الحالة التقليدية للتعاون العالمي. نحن نعيش في عالم مترابط اقتصادياً، كما هو معتاد. وما تفعله دولة ما يؤثر غالباً في الأخرى. فإذا لم تنسق الحكومات سياساتها وتتوصل إلى اتفاق بشأن القواعد المشتركة، فإن التداعيات ستكون أسوأ على الجميع.

ومع ذلك، لهذه الحجة المنطقية ثغرة كبيرة يمكن النفوذ منها، وهي أن مجرد وجود التداعيات ليس مبرراً مناسباً للتنسيق العالمي. ففي الغالبية العظمى من الحالات التي تُولّد فيها السياسات الاقتصادية تداعيات عبر الحدود، تحتفظ الحكومات الوطنية بشكل شرعي بالاستقلالية الكاملة، مع القليل من الإضرار بالاقتصاد العالمي.

فكّر في حكومة تريد مضاعفة ميزانيتها للتعليم العالي العام، أو لتدريب العلماء والمهندسين، هل ينبغي السماح للحكومات الأخرى بالاعتراض واستدعاء القواعد الدولية لتقييد سياسة تلك الحكومة أو ضبطها؟ حتى أكثر «العولميين» تشدداً، من يعتقدون أن العالم يجب أن تحكمه حكومة عالمية واحدة، سيرون هذا احتمالاً سخيفاً.

هناك بالتأكيد تداعيات دولية لعدم سنّ قواعد مشتركة بين البلدان، وقد تكون كبيرة. وإذا تم تنفيذ السياسات الأحادية، فإن البلد الأصلي سيعزز ميزته النسبية في السلع كثيفة المهارات، مما يضر بمنافسيه في الأسواق العالمية. لكن، ونظراً لأن التداعيات منتشرة للغاية، ولأن العديد من مجالات السياسة الحكومية يُنظر إليها بشكل طبيعي على أنها «محلية» (كما يشير المثال التعليمي)، فهي ليست دليلاً جيداً للطريق الذي علينا اجتيازه للوصول إلى التعاون العالمي.

ربما ينبغي أن تركز القواعد العالمية على السياسات التي قد تكون ضارة باقتصاد الدولة. ومن المرجح أن يكون الاستثمار في التعليم العام ذا فائدة للاقتصاد المحلي، حتى لو أضر ببعض الشركاء التجاريين. لكن رفع التعريفات الجمركية على الواردات أو دعم صناعات معينة سيضر أكثر بالاقتصاد المحلي وبالشركاء التجاريين.

إن الحجة من أجل الحوكمة العالمية أقوى بكثير بالنسبة للفئة الضيقة من السياسات التي تحاول من خلالها دولة ما معالجة مشاكلها الاقتصادية على حساب المشاكل الاقتصادية للبلدان الأخرى، على مبدأ أن الضرر الذي تسببه في الخارج شرط مسبق ضروري للفوائد التي ستجنيها في الداخل. وبالتالي، فإن استغلال القوة الاحتكارية لدولة ما في الأسواق العالمية، أو الحفاظ على ضرائب منخفضة على رأس المال لجذب الأرباح من الخارج، أو خفض قيمة العملة المحلية من أجل استقطاب التوظيف من الخارج تُعد حالات كلاسيكية.

في المقابل، ماذا عن «الحمائية المناخية»، والتي هي في صميم المخاوف المعاصرة حول الأحادية؟ فبينما تثير المتطلبات المحلية للإعانات الخضراء الأمريكية، والتعريفات التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على الواردات كثيفة الكربون، غضب بلدان العالم الثالث، إلا أن هذه المخاوف ليست في محلها. فتغير المناخ مشكلة وجودية للعالم، ومعالجتها هي مصلحة عامة حقيقية. ومن وجهة نظر الحوكمة العالمية، سيكون الأمر أسوأ بكثير إذا اختارت الدول الرائدة المضي وحيدة في سياسات إزالة الكربون الخاصة بالآخرين ولم تفعل الكثير بنفسها لمعالجة الأزمة.

يمكن أن تؤدي القيود الكثيرة على استقلالية السياسات الوطنية لدولة ما، في ظل العولمة المفرطة، إلى رد فعل عنيف على الاقتصاد العالمي وتآكل السيادة، مع الشعور بفقدان السيطرة بين العديد من الأفراد، مما يفاقم كراهية الأجانب ويزيد العداء خارج المجموعة.

في المقابل، عندما تسعى الحكومات إلى تحقيق أجندات اقتصادية واجتماعية وبيئية محلية أكثر شمولاً، فإنها توفر فائدة إضافية للاقتصاد العالمي. ومن المرجح أن ترحب الاقتصادات التي تتمتع بحكم جيد، حيث يتم تقاسم الرخاء على نطاق واسع، بتوسيع التجارة الدولية وفرص الاستثمار والهجرة الشرعية. وبالنتيجة فإن الاقتصاد المحلي هو الذي يجني معظم الفوائد من الانفتاح على الاقتصاد العالمي، بشرط توزيع الفوائد بشكل عادل. فعندما تساعد البلدان نفسها، فإنها تساعد الاقتصاد العالمي ككل.

* أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية «جون إف. كينيدي» للإدارة الحكومية بجامعة هارفارد

* بروجيكت سينديكيت

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mr32r67f

عن الكاتب

أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية «جون إف. كينيدي» للإدارة الحكومية بجامعة هارفارد(بروجيكت سينديكيت)

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"