الاقتصاد العالمي.. حمائية أم تجارة حرة؟

21:18 مساء
قراءة 3 دقائق

داني رودريك *

من الأسئلة الأكثر شيوعاً التي يتردد صداها هذه الأيام، كيف سيكون أداء الاقتصاد العالمي في ظل الحمائية بعد أن أوشك عصر التجارة الحرة على الانتهاء؟ لكن التمييز بين التجارة الحرة والحمائية، كالمقارنة بين الأسواق والدولة، أو بين المذهب التجاري والليبرالية، لا يساعد على فهم الاقتصاد العالمي.

وتستحضر عبارة «التجارة الحرة» صورة للحكومات التي تُفسح المجال للأسواق لرسم النتائج الاقتصادية بنفسها. ومع ذلك، يتطلب أي اقتصاد سوق واعد قواعد وأنظمة، ومعايير إنتاجية، وضوابط تمنع السلوك التجاري المحتكر والخانق للمنافسة، إضافة إلى ضمانات المستهلك والعمل والبيئة، ووظائف مقرض الملاذ الأخير والاستقرار المالي، والتي عادة ما يتم نشرها وتنفيذها من قبل الحكومات.

لقد أصبح من الواضح أن العولمة المفرطة، التي استمرت تقريباً من أوائل التسعينات حتى ظهور جائحة كورونا، لم تكن فترة من التجارة الحرة بالمعنى التقليدي. فالاتفاقيات التجارية التي تم التوقيع عليها على مدى الأعوام الثلاثين الماضية لم تكن تتعلق بإزالة القيود المفروضة على التجارة والاستثمار عبر الحدود بقدر ما كانت مرتبطة بالمعايير التنظيمية، وقواعد الصحة والسلامة، والاستثمار، والخدمات المصرفية والمالية، والملكية الفكرية، والعمل، والمساواة بين الجنسين. والبيئة، والعديد من القضايا الأخرى التي كانت منوطة في السابق بالسياسة الداخلية للدولة.

ولم تكن هذه القواعد محايدة أيضاً؛ بل أعطت الأولوية لمصالح الشركات الكبرى المرتبطة سياسياً، مثل البنوك الدولية وشركات الأدوية والشركات المتعددة الجنسيات، على حساب كل شيء آخر، والتي بدورها عززت وجودها داخل الأسواق العالمية بشكل أفضل.

وعلى نحو مماثل، تم اختراق قواعد الملكية الفكرية الأكثر صرامة، والتي تسمح لشركات الأدوية والتكنولوجيا بإساءة استخدام مراكزها الاحتكارية، تحت ستار التجارة الأكثر حرية. وتم دفع الحكومات إلى تحرير تدفقات رأس المال، في حين ظلت العمالة محاصرة خلف الحدود. كما تم إهمال قضايا تغير المناخ والصحة العامة على حساب أجندات العولمة المفرطة، لأن إحداث النفع العام في أي من المجالين كان ليؤدي إلى تقويض المصالح التجارية الأوسع.

لكن، في السنوات الأخيرة، شهدنا ردة فعل عكسية ضد هذه السياسات، وإعادة النظر على نطاق واسع في الأولويات الاقتصادية بشكل أكثر عموماً. وما ينتقده البعض باعتباره نهجاً حمائياً ومذهباً تجارياً، هو في واقع الأمر إعادة التوازن نحو معالجة القضايا الوطنية المهمة مثل نزوح العمالة، والمناطق المتخلفة عن الركب، والتحول المناخي، والصحة العامة. وهذه العملية ضرورية لمعالجة الأضرار الاجتماعية والبيئية التي أحدثتها العولمة المفرطة، والعمل على تأسيس شكل أكثر صحة لهذه العولمة في المستقبل.

ومن أوضح الأمثلة على عملية إعادة التوجه هذه، السياسات الصناعية التي انتهجها الرئيس الأمريكي جو بايدن، وإعانات الدعم الخضراء، وشعار «صُنع في أميركا». صحيح أن هذه السياسات شكلت مصدر إزعاج في أوروبا وآسيا والعالم النامي، حيث يُنظر إليها بوصفها مناقضة لقواعد التجارة الحرة الراسخة، لكنها تعتبر في المقابل نموذجاً لأولئك الذين يبحثون عن بدائل للعولمة المفرطة والليبرالية الجديدة في دولهم.

بعد اتفاقية «بريتون وودز» عام 1944، احتفظت الحكومات العالمية باستقلالية كبيرة في السياسات الصناعية والتنظيمية والمالية، وأعطت العديد منها الأولوية لصحة اقتصاداتها المحلية على حساب التكامل العالمي. وكانت الاتفاقيات التجارية ضيقة وضعيفة، ولم تُفرض سوى القليل من القيود على الاقتصادات المتقدمة والبلدان النامية. وكانت السيطرة المحلية على تدفقات رأس المال القصيرة الأجل هي القاعدة، وليس الاستثناء.

مع ذلك، وعلى الرغم من الاقتصاد العالمي الحالي الأكثر انغلاقاً، وفقاً لمعايير اليوم، أثبت عصر «بريتون وودز» أنه كان ملائماً لتحقيق تقدم اقتصادي واجتماعي كبير؛ إذ شهدت الاقتصادات المتقدمة عقوداً من النمو الاقتصادي السريع والمساواة الاجتماعية والاقتصادية النسبية حتى النصف الثاني من السبعينات. ومن بين البلدان المنخفضة الدخل، سجلت تلك التي تبنت استراتيجيات تنمية فعّالة، مثل هونغ كونغ وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان، نمواً هائلاً.

وعندما انخرطت الصين بنجاح كبير في الاقتصاد العالمي بعد ثمانينات القرن الماضي، حافظت على إعانات الدعم، وملكية الدولة، وإدارة العملة، وضوابط رأس المال المحلية، وغير ذلك من القوانين التي تذكرنا بسياسات بريتون وودز أكثر من نهج العولمة المفرطة.

لقد كانت العلاقات الاقتصادية بين الغرب والاتحاد السوفييتي محدودة للغاية أيام الحرب الباردة، ولم يكن للكتلة السوفييتية سوى موطئ قدم صغير في الاقتصاد العالمي. ونتيجة لذلك فإن المنافسة الجيوسياسية لم تعرقل توسع التجارة والاستثمار الطويل الأجل.

لكن الوضع مختلف تماماً اليوم، فالمنافس الرئيسي لأمريكا هي الصين، التي تحتل مكانة كبيرة جداً في الاقتصاد العالمي.

* أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية «جون إف. كينيدي» بجامعة هارفارد

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yc6fffkn

عن الكاتب

أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية «جون إف. كينيدي» للإدارة الحكومية بجامعة هارفارد(بروجيكت سينديكيت)

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"