قراءتان للتاريخ

00:13 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

قدّم الغرب خلال ثلاثة قرون قراءة لتاريخ العالم، هي قراءة المنتصر، التي تركز على عوامل تفوّقه حضارياً وثقافياً واقتصادياً وعسكرياً، وترصد عوامل القوة في التجربة الغربية، وتتجاهل نقاط الضعف. كانت الأنا الغربية في تلك القراءة متضخمة، وهي لم تقتصر على الحاضر أو الماضي القريب فحسب، ولكن تم تعميمها على التاريخ القديم كذلك، وفي هذا الإطار رُوج كثيراً للعبقرية اليونانية، الجذر الأبعد للغرب المعاصر بوصفها السبب الأساسي الذي يفسر ازدهار الديمقراطية والفلسفة، وما يلحق بهما من قيم يزهو بها الغرب المعاصر، ووصل الأمر ببعض المؤرخين هناك إلى القول إن العقل سمة غربية، وإن التجربة الأوروبية في حد ذاتها نتاج عبقرية جينية غير قابلة للتكرار.

إن قراءة المنتصر أو المتقدم للتاريخ تتماس مع كل العلوم، ففي علم الاجتماع تقول هذه القراءة إن المجتمعات الغربية تميزت بسمات خاصة وتشكيلات معينة، وشهدت صراعات لم تعرفها مجتمعات أخرى، ما أتاح لها التقدم. وفي علم الأعراق يقدم المنتصر نفسه بصورة عنصرية تضع في الاعتبار العوامل الجغرافية والطبيعية، فيصبح أمامنا إنسان أبيض متفوق بطبعه وآخر ملون أو أسود لن يستطيع النهوض أو التقدم مهما حاول ذلك. وفي علم النفس تقدم هذه القراءة تفسيراً ممنهجاً لسلوكيات الرجل الأرقى الذي يتحلى بالأخلاق والقيم الفاضلة في مقابل سلوكيات همجية بعيدة عن التحضر يقوم بها الآخرون. تُبصر قراءة المنتصر للتاريخ أيضاً العالم بعيون أسيرة ذاتها، فتصبح هي العالم، وغيرها لا ينتمي إلى التاريخ، أو يقع في الهامش، أو لا وزن له أو قوة أو فاعلية.

الأهم من ذلك أن قراءة المنتصر للتاريخ، بغض النظر عن صحتها، تؤثر في المهزوم أو المتخلف، تتسلل إلى عقله وتهيمن عليه، فيقدم بدوره قراءة شبه مطابقة لقراءة المنتصر، وإن كانت من موقع آخر، ويتبنى معظم مقولاته وينشرها في ثقافته، ولقد لاحظنا مثلاً في الأطروحات الثقافية لدى كل الشعوب غير الغربية حفاوة بالغة بالتجربة اليونانية العبقرية، وإيماناً قوياً بأسس التقدم الغربي كما عرفه عصر النهضة والتنوير، وإعجاباً خفياً بتحضر وقيم الرجل الأوروبي، بل وصل الأمر إلى توظيف الأساطير الغربية في الآداب المحلية المختلفة.

لا يقف الأمر بالنسبة للمهزوم عند هذا الحد، بل يتطور ليقدم قراءة خاصة لتاريخه يجلد فيها ذاته، ويعدد عوامل أدت إلى تخلفه، وربما تكون عوامل وهمية غير موجودة أصلاً، ويبصر تاريخه بمنظار قاتم أو أسود، ويتجنب رؤية نقاطه المضيئة، ويصدق قراءة المنتصر للتاريخ، فالغربي متقدم بطبعه، أما هو فيعيش حالة تخلف دائم، ولا يجرؤ على نقد المنتصر إلا إذا أقدم هذا الأخير على نقد نفسه.

نحن أمام قراءتين للتاريخ، تتداخلان كثيراً، وتتقاطعان، ونتج عنهما إشكاليات لا نهاية لها، وتحتاجان من القارئ إلى الوعي وفهم أبعاد ومنطلقات كل قراءة، حتى نستطيع أن نتعامل مع تاريخنا بطريقة صحيحة تدرك نقاط القوة وتعرف عوامل الضعف وأسباب التراجع دون عقد المهزوم، أو الولع اللاصحي بتقليد المنتصر واستنساخ رؤيته.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2w2d5dap

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"