عصر المثقف العادي

00:25 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

وصف المفكر الراحل جلال أمين العولمة يوماً بأنها عصر الرجل الأمريكي العادي الذي يبحث عن السهل والمثير في الإعلام والفنون، هذا الوصف مر عليه اليوم ما يقرب من ثلاثة عقود، وتؤكده الأحداث المتعاقبة وتطور التكنولوجيا فائقة الحداثة وصعود الأدوات المتعلقة بها.

إن ما يمكن للمتابع ملاحظته، تلك السهولة التي تقترب من حد السطحية في المنتج الثقافي بصفة عامة، فالشعر في العالم بأكمله في حالة تراجع، فهذا الجنس الأدبي يتطلب ذائقة مرتفعة نوعاً ما، فضلاً عن مستوى عالٍ من التعليم، أما الرواية فأصبحت تميل إلى الحكي والسرد السلس الذي يخلو من التعقيد، وباتت تعتمد على «الحدوتة» فقط، لا تطرح أسئلة إشكالية أو مربكة تتعلق بمصير الفرد، والبطل فيها مثل إنسان العصر غائم الملامح لا تشغله قضايا كبرى ولا تعترض طريقه عقبات كان الروائي يضعها في الماضي أمام أبطاله ليحلل تشابكات وقضايا مجتمعه، أما السينما فحدث ولا حرج، ولا يمكن فهم ذلك الرواج المنقطع النظير لأفلام مثل «باربي» إلا من خلال تحليل روح عصرنا والتي تهيمن عليها روح الرجل العادي، والأمر نفسه ينطبق على المسرح ومختلف الفنون والآداب الأخرى.

لا يبحث الرجل العادي إلا عن كل ما هو أحادي الاتجاه يخلو من إعمال العقل، ولا يحتاج إلى تفكير، والمشكلة لا تكمن فيه، وإنما في صناع الثقافة، فالرجل العادي أو البسيط كان دائماً على الساحة، وأحياناً ما كان المنتج الثقافي يلبي رغباته، لكن هذا المنتج في معظم الأوقات كان يخضع لشروط الثقافة الموزونة والرصينة بالدرجة الأولى، أما أن يفرض الرجل العادي ذائقته على معظم المنتج الثقافي فهي سمة تتميز بها المرحلة الأحدث في العولمة، مرحلة مواقع التواصل والذكاء الاصطناعي.

إن أهم ملمح لهذه المرحلة لا يتمثل في صعود الرجل العادي، وإنما في نشأة ما يمكن أن يطلق عليه «المثقف العادي»، حيث لم تعد الثقافة مهمومة بمشاكل الإنسان، لكن تهدف إلى إمتاعه بالدرجة الأولى، ولم يعد يهمها طرح الأسئلة الأساسية في الحياة ومحاولة تقديم إجابات عنها، لكن أصبحت معنية بإعادة إنتاج حياة تتسم بالرفاهية والنزعة الاستهلاكية.

أحدثت التكنولوجيا الحديثة انقلاباً تاريخياً في مفهوم الثقافة نفسه، فبعدما كانت تلك الأخيرة نتاج نخبة وتسير من أعلى الهرم الاجتماعي إلى أسفله، باتت تلك النخبة تتأثر بما ينتجه جمهور تلك التكنولوجيا وتحاول إعادة تدويره وتقديمه إلى ذلك الجمهور مرة أخرى، والأهم من ذلك أن وجود تلك النخبة بات على المحك في ظل نشأة وازدهار طبقة من المؤثرين الذين يستطيعون التفاهم أكثر مع الجمهور ومعرفة احتياجاته. 

نحن في الحقيقة أمام نوعين من النخب، الأول يتمثل في المؤثرين اجتماعياً، والثاني هو الطبعة الجديدة من المثقف القديم الفعّال، وهو المثقف العادي، والذي لا يختلف في قليل أو كثير عن الرجل العادي إلا في امتلاكه لموهبة الكتابة أو صناعة الفن، لكنها موهبة تخضع لبساطة التكنولوجيا الحديثة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/43h6nh54

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"