نوعان من الخرائط

00:22 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

رافقت الخريطة جميع الغزاة، يذهب فيليب فيرنانديز أرميستو في كتاب «المستكشفون» إلى أن أول خريطة إغريقية للعالم رسمت في عام 500 ق.م، استعداداً لشن الحرب ضد الفرس. بل إن الخريطة أكسبت الإنسان قدراً كبيراً من القوة والتفرد، حيث صاحبت المستكشفين ومنحتهم قوة في البداية، ومكنتهم من الاتجاه إلى بقاع مجهولة، حيث ظهروا في تلك البقاع، كأنهم كائنات فضائية، أو آلهة هبطت على الأرض فجأة، حدث هذا مع الملكة الفرعونية حتشبسوت عندما وصلت إلى بلاد بونت، والإسبان عندما حطوا على شواطئ الأمريكيتين، والقائد المكسيكي المسمى بمولود النار، عندما وصل إلى حضارة المايا قبل الأوروبيين، في كل هذه الحالات كانت الشعوب المذهولة أو المصدومة تنظر بانبهار إلى ذلك القادم المجهول، وتسأل: «هل يعيش أحد في الجانب الآخر؟.

هل يعيش أحد في الجانب الآخر؟، هو السؤال الذي فرضته سردية الفضول البشري طوال التاريخ، سؤال توشحت به مختلف الهجرات، سؤال صاغه الشغف في كل الكتب المهمة، وسنجد أن لا فارق كبيراً بين خرائط مرسومة وملونة..سياسية أو طبيعية تقول لنا من هنا ومن هناك، وخرائط أخرى مكتوبة تصف لنا حدود الأرض، أو أبعاد البلدان التي يعيش فيها الآخرون الذين اعتبرهم المستعمر همجاً أو برابرة، أفرزت الخرائط في الحالتين آفاقاً عصية على الاستيعاب، انتجت صوراً ذهنية مشوهة عمن يقبعون هناك.

تسببت صدمة لقاء الخرائط ببعضها في قوس معرفي واسع: شرق-غرب، شمال-جنوب، الذات-الآخر، الصديق- العدو، الأصالة-الحداثة، التراث- العصر.. منظومة لا أول لها من آخر.

طرحت الخرائط أسئلة لا تخطر على بال، طالت مختلف جوانب الفكر: لماذا تفوق الصينيون القدامى في الجبر والحساب دون الهندسة التي برع فيها الإغريق؟، ولماذا يتعلم الأطفال في الغرب الأسماء أسرع من الأفعال، بينما أطفال شرق آسيا يتعلمون الأفعال بأسرع من الأسماء؟، هذه الأسئلة وغيرها رددها مستشرقون، رأوا في الشرق الأقصى والصين تحديداً عالماً غريباً، والعقل وفق هذه الرؤية وغيرها المئات يخضع للتوزيع الجغرافي، والأعراق والسلالات والإثنيات والعوامل الاجتماعية والمناخ.

في فترات الازدهار يسود التسامح وتتداخل الخرائط، أي يعيش من جاؤوا من هناك بيننا، أو نذهب نحن لاحقاً لنحيا عندهم، عندها تتداخل حدود الأنا مع أبعاد الآخر، أي تمتزج الخرائط، يروي التاريخ عن البلاط الصيني وكيف ضم مختلف الأديان، وبغداد المأمون، وما يعرف ب «المسائل الصقلية» الفلسفية التي طرحها حاكم صقلية المسيحي روجر الثاني وأجاب عنها المتصوف المسلم عبد الحق ابن سبعين في حوار ثقافي وديني صحي عالمي مبكر.

صاحبت الخريطة الإنسان منذ خطواته الأولى على الأرض، واستمرت معه وهو يؤسس المدن ويمارس الصيد والزراعة، وصاحبته في الكشوف الجغرافية، وكانت في حوزته دوماً في السلم والحرب، وعلى أساسها تشكلت أمم ورُسمت كيانات سياسية ونشأت. وفي النهاية إن ما يميز خريطة عن أخرى رؤيتنا لذواتنا وللآخرين، وهل نمد إليهم يد الصداقة أم نبطن بداخلنا رغبة في التشويه؟.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/nh9m2bn7

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"