البحث عن لبنان في البلوك رقم 9!

00:28 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

لطالما روى الرئيس الدكتور سليم الحص عندما جمعنا في «منبر الوحدة الوطنية» التي قاربت المستحيلات، أنّ الله خلق شمالي الجزيرة العربية بقعة صغيرة خضراء جميلة وكأنّها قطعة من الجنّة بجبالها البيضاء وينابيعها الرقراقة الغنّاء، اسمها لبنان، تجده في الكتب المقدسة ويتباهى به المؤرخون.

لقد حوّل اللبنانيون جنّتهم إلى جهنم موصوف بصحاريه وساحاته الطائفية القاحلة قبالة الجنوب الطافح بالجنائن و«الجنّات على مدّ النظر» تعمل شابّات اللبنانيين وشبابهم فيها كما شعوب الأرض حيث الرغد والرخاء.

أصاب الدكتور الحص جمهورية الساحات المفتوحة على كلّ خارج وعلى الحرّ والجوع والعوز والعتمة والهجرات والنزوح وفصول النهب التي سكنت اللبنانيين بأحاديثهم ونصوصهم أُثبت منها فقرةً للدكتور جورج يزبك حول اختفاء رياض سلامة حاكم مصرف لبنان السابق وكأنّه فص ملحٍ ذاب ربّما في مياه البلوك رقم 9 حين وصول باخرة الحفر والتنقيب عن النفط والغاز التي ستخرج لبنان كما قيل من جحيمه:

«يحكى أنه عند وفاة أدهم بن عسقلة أحد كبار اللصوص في العصر العباسي، فُتحت وصيته لأتباعه وجاء فيها: لا تسرقوا امرأة، رياض سلامة سرق المرأة وابنتها، سرق الكبير والصغير، سرق المولود ومن لم يولد بعد. لا تسرقوا جاراً، سرق القريب والبعيد. وإذا سرقتم بيتاً اسرقوا نصفه واتركوا النصف الآخر ليعتاش عليه. سرق البيت كله، ويحتمي اليوم ب«الفلاش ميموري» الذي يسمّي فيه بالاسم المستفيدين من خدماته، سياسيين وقضاة وعسكريين ومصرفيين وإعلاميين ورجال دين. هل صار رياض سلامة في قبرص ومنها إلى بلد ثالث بترتيبات سياسية أمّنت خروجه مقابل قبول لبنان باستقبال مهاجرين سوريين ضُبطوا في قبرص؟ كان رياض سلامة يتذرع بعدم تبليغه أصولاً، مختلقاً لنفسه عذراً لعدم المثول أمام القاضية الفرنسية المتشددة. Aude Buresi كان يعرف أنها ستأمر بتوقيفه لإدراكه ما اقترف عقله وما جنت يداه. وكان يمثل بملء ثقة أمام قاضي التحقيق في بيروت. كان يعرف أنه سيحظى بكل وسائل الراحة. تخصيص المصاعد له، وصوله وخروجه بعيداً من العيون. كان يعرف أنه ذاهب إلى دارة أمه لا إلى بيت خالته. فجأة اختفى رياض سلامة. تعذر ويتعذر تبليغه فقط لأن القاضية المتشددة هيلانة إسكندر استأنفت قرار قاضي التحقيق أمام الهيئة الاتهامية، فاستشعر بالخطر.

التواري في قانون الجزاء إحدى القرائن التي يستند إليها قضاء التحقيق أو قضاء الحكم للظن أو للاتهام أو للإدانة. لم يكن سلامة عادياً اضطرته الحاجة لمدّ يده إلى بيت المال. كان سارقاً موصوفاً مدّ يده لا توسلاً، بل غسلاً لأموال. لم يمدّها تسولاً بل تطاولاً على المال العام والخاص، وتجوالاً في حسابات المودعين، وتداولاً في الاحتياطي، ومجدولاً أرباحه على مدى ثلاثين عاماً. مدّ يده لجيبه ولجيوب مشغّليه حتّى أصبح الشغل الشاغل لهؤلاء، مشغولي البال إذا ما أصابه مكروه قضائي».

وبالرغم من هذا، يستمر الراقصون في الصيف والأمم تُصفق ضاحكةً لهم مجدّداً من ساحةٍ لساحة ومن تحدٍّ وتلويحٍ بحرب إلى تلويحٍ وتحدٍّ بحروبٍ، وكأنّنا منسّقو الوصلات الأولى في الرقص المتفجّر ليتلوّى بنا فوق النيران المستوردة.

تجد أحدهم يرقص فرنسياً ولا ينبس العربية لا وجهاً ولا لساناً سائلاً: أين هي العروبة؟ وتجد من يرقص أمريكياً متابعاً بدقة تجديد قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن وقوّات اليونفيل في جنوبي لبنان. وتجد من يرقص فلسطينياً بالكوفية والعقال وباللحى الجاهزة أبداً للقتال في المخيمات مقابل من يرقص متشدّداً أصولياً وفقاً لتعرّجات الوعورة في الساحات السياسية وتصويبها من الخارج، وتجد من يرقص إيرانياً مذكّراً بأنه باقٍ في سلالة الشوق للمياه المتوسطية. وتجد الراقص فرنسياً وسورياً وصينياً وسوفييتياً وبريطانياً... إلخ. وتكتشف «زعماء لبنانيين» يختزنون وصلات الأرض في تصريحاتهم ومواقفهم تحقيقاً لمزيدٍ من ثرواتهم اللامتناهية المستغرقة في نهب لبنان بل في مصير الأبناء والأحفاد.

هذا هو المشهد! رقص متنوع متكاثر في الساحات فوق لبنان المفتّت. يتعدّد الرقص ويتشعب، ويتكاثر لبنان ويتشعب: اللسان لسانان وألسنة، والسروال سراويل، وإبريق الفخار أباريق، وطبق القش أطباق، والمدرسة والجامعة ألوف من المدارس والجامعات منها السرّي ومنها الجهري، والكتاب مليون كتاب، والقاموس ألف قاموس والمصطلحات متشعبة المعاني ومتعددة التحريفات، أحزاب وتجمعات طافت هزالاً فوق أوطانٍ من الألوان اللا متناسقة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2nn75zzd

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"