أكثر من بُعد للذاكرة

00:23 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

في السينما، عندما يفقد الإنسان ذاكرته، فإنه ينسى كل شيء، اسمه وعائلته وبيته وموطنه... إلخ، وكأن الذاكرة تساوي المرء نفسه. ولكن يخبرنا العلم بأن تلك خرافة، ففقدان الذاكرة من زاوية طبية يعني أن الإنسان لن يستطيع تكوين أي ذاكرة تراكمية في المستقبل، ستصبح ذاكرته لحظية، بمعنى أنه يمكن أن يأكل وينسى أو يتناول الدواء ويعيد تناوله مرة أخرى، فضلاً عن مشاكل عديدة في الإدراك والتعلم، ولكن يظل الماضي حاضراً، لن يمنحنا فقدان الذاكرة نعمة النسيان.

 يخبرنا العلم أيضاً بأن الذاكرة الفردية ليست توالدية أو فوتوغرافية استنساخية، بل هي تمازج بين ذكريات مشوشة، إضافة إلى ما نفرزه مما مّر بنا ويتوافق مع معتقداتنا وأفكارنا وآرائنا، بمعنى أنها ليست عفوية، وأنها واحدة من دفاعاتنا النفسية عما نعتقد صوابه.

 يقول جون سكانلان في كتاب «الذاكرة»: «التذكر هو إعادة امتلاك الحقيقة». ونحن في تعاملاتنا على مدار الساعة، يقول لسان حالنا في الكثير من المواقف: «أتذكر جيداً ما حدث، لن تستطيع أن تخدعني». وكأننا نعتز بما نمتلكه من حقيقة أمام خداع الآخرين.

 يخبرنا العلم مرة ثالثة بأن هناك ذاكرة زائفة، بعض العقول سواء طوعاً أو من خلال التأثير فيها عبر التجارب تخلق وقائع لم تحدث، ثم ترسخها رويداً رويداً بوصفها ذكريات حقيقية مرت بها.

 يقول لنا العلم كذلك أن بعض الأحداث المؤثرة التي مرت بنا ربما نغير فيها بعد مرور فترة زمنية على انتهائها، وفي تجارب حقيقية أجريت على أشخاص شهدوا تحطم مكوك الفضاء «تشالنجر»، روى بعضهم ذكريات مختلفة عن لحظة التحطم بعد سنوات. 

 أي أن الذاكرة في النهاية ما هي إلا عملية استدعاء للذات في مختلف مواقفها، لها علاقة بكياننا كله، وبمراحل تشكل ذلك الكيان من خلال تشكيل الأحداث بما يؤثر في الشخصية وتكوين المعتقدات والأخلاق وبالتبعية السلوك، يقول هنري بيرجسون: «الذاكرة هي الاسم الحقيقي لعلاقة المرء بذاته، أو أثر المرء في ذاته». ومن هنا راقت الفكرة للسينمائيين، فالإنسان بلا ذاكرة ينقصه كل شيء، وحتى في اللغة عندما نقول عن شخص أو حدث «طواه النسيان»، فكأننا ضمنياً نشير إلى أنه لم يَعُدْ له أثر، وربما لم يكن له وجود في يوم من الأيام.

 في لحظات عديدة تعود بنا الذاكرة لكي نفكر في خياراتنا، ومدى صوابها، أي أنها في هذه الحالة شهادة على الذات، تتضخم لتصل بنا أحياناً إلى جلد أنفسنا والعيش بمرارة، أو لكي نصاب بالبارانويا والتعالي على الآخرين، وكثيراً ما نتورط يومياً في استدعاء الذاكرة للشهادة في مواقف يُطلب منا الرأي فيها، وتكبر عندما نقف لنشهد في وقائع جريمة حدثت أمامنا، هنا تتحول الذاكرة إلى ضمير يوجهنا في التعامل مع البشر، وفي تأسيس رؤية لكل ما يحيط بنا. 

 هي الذاكرة عندما تكون شهادة خاصة بكل فرد على ما يحيط به، هي بمعنى ما شهادة الإنسان على العالم بأكمله.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/59d3576z

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"