مستقبل التمرد

00:28 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبدالله السويجي

التمرد هو الخروج عن النظام السياسي أو المجتمعي أو الأسري، وهو حالة معروفة منذ بدء الإنسان دراسته لنفسه ولعلاقاته مع الآخر وذاته. والآخر كل شيء يشكل سلطة، إما أن تكون فكرية أو أبوية، أو حالة أدبية أو فنّية. وباختصار هي رفض لما هو كائن، فإما أن يكون الرفض قطعياً أو نسبياً، شاملاً أو جزئياً. ويستخدم علماء النفس كلمة الطاعة بصفتها ضد التمرد، أي أن المتمرد إنسان أو كائن غير مطيع. ويتجاوز معنى التمرد الأفراد ليلامس الجماعات والدول، فيتحوّل معنى التمرد الجماعي إلى ثورة، والتمرد الدولي إلى خروج عن المنظومة العالمية، كما يحدث في تغيير الأنظمة والانقلابات.

ووفقاً لهذا المعنى، فإن التاريخ مملوء بحركات التمرد الفردية والجماعية، وحالات التمرد المعنوية؛ إذ يصف النقاد الخروج عن البنى المتعارف عليها بالخروج عن المألوف، وهكذا أصبحنا نرى مدارس جديدة في إدارة البلاد والدول والجماعات، ومدارس شبيهة في المجالات الفنية والأدبية والفكرية، حتى أصبح التمرد قيمة جمالية في الفن والأدب والفكر. وإذا كان التاريخ مملوءاً بالتمرد والعصيان والخروج عن الطاعة، فإن تاريخنا المعاصر، كما أعتقد، تغلّب في حالات تمرّده على عصور سابقة، ويعود هذا إلى أكثر من سبب أهمها: الثورات التي طالبت بالحرية والمساواة والإخاء، كالثورة الفرنسية، وما صاحبها وتلاها من ظهور مفكرين كتبوا ضد الظلم والاستبداد. وشيئاً فشيئاً دخلت هذه القيم في تشريعات وقوانين ومبادئ، مثل مبادئ حقوق الإنسان.

وأعتقد بأن الاعتراف العالمي بهذه المبادئ وصدورها عن منظمة أممية كالأمم المتحدة، سرّع من حالات التمرد الحميد، لا سيّما أن القوانين منحت الفرد حصانة ضد النظام العام، فمنحته حرية التعبير عن الرأي، والمعتقد والاختيار، ويشمل هذا نوع الإنسان، وتندرج تحت الحرية الشخصية ممارسات لم تكن موجودة في عصور خلت. وبما أن هناك مفاهيم مختلفة لكل مجتمع بشأن الحريات الشخصية، فقد تمردت بعض الدول والمجتمعات على مبادئ حقوق الإنسان، ووضعت لنفسها مبادئ حقوق تعتقد بأنها تناسب مجتمعاتها، فظهرت على سبيل المثال، حقوق الإنسان في الإسلام، وهي تختلف بكل تأكيد عن حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، وإن كان الاختلاف ليس كلياً، فالإنسان في النهاية هو الإنسان.

ومن الأسباب أيضاً، ثورة التكنولوجيا والاتصال التي حملت معها في ما بعد ثورة وسائل التواصل الاجتماعي. وهذه الوسائل جمعت العالم كله في غرفة صغيرة، أو في شاشة فضية، يستطيع الفرد أن يمارس من خلالها كل ما يرغب ويشاء، وأن يتمرد، إذا أراد، على كل النظم العالمية، ومبادئ حقوق الإنسان العالمي والإسلامي، وعلى الأسرة والمجتمع بما تحمله من قيم وعادات وأعراف وتقاليد. أي أن التكنولوجيا والتقنية المتطورة مهّدت الأرض للإنسان كي يتمرد، وأن يمارس ما يشاء في الخفاء والعلن، والاطلاع على عالم مختلف، يحتوي على ممارسات مناقضة لبيئته وثقافته.

فهل دجّنت هذه التكنولوجيا والوسائل الناس، وخاصة الأجيال الصاعدة، ومنعتهم من إظهار تمردهم إلى العلن، عن طريق ممارسة ما يريدون في العالم الافتراضي؟ وهل زادت، من ناحية أخرى، جرعة التمرد لدى الفئة المراهقة وما بعدها، وشجعتها على الاصطدام مع أسرتها ومجتمعها وحكومتها، بسبب وجود حاضن أممي لهذا التمرّد؟

ومن ناحية أخرى، لم يعد الإنسان يفضل التمرد الظاهري والصراخ في الشوارع إذا تعرّض للظلم وسوء التقدير وسلب الحقوق، وبات يلجأ إلى أساليب جديدة تمكنه من إسماع صوته للمعنيين. لكنه لم يتخلّص من السلطة، ولم يتمكن من تحقيق تمرده النهائي والتام، لأن التكنولوجيا ذاتها، باتت تراقبه، وتنقل سلوكه وأفكاره للمعنيين، وبذلك تكون التكنولوجيا سلاحاً ذا حدين، ومصير الإنسان رهن طبيعة استخدامها.

التمرّد كلمة آخذة في التغيّر في معناها ومبناها وأشكالها، ويساعد على ذلك تطور الإنسان المعرفي والتقني، وقد نصل إلى مرحلة، يختفي فيها التمرد بمعنى العصيان.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3rhyf3wj

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"