الحرية الفردية والشخصية الوطنية

00:30 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبدالله السويجي

ما بين الحرية الشخصية والحرية الجماعية، بون شاسع تملؤه المفاهيم والقيم والمعتقدات والسياسات والسلوكات، لكنها في النهاية تصب في ما يُسمى بالشخصية الوطنية. وإذا كان البعض يفرّق بين الشخصية الفردانية والشخصية الوطنية، فهذا لأنه يؤمن بالحرية المطلقة للفرد؛ وهي حرية يستطيع أن يمارسها في حجرة مقفلة بإحكام، بينما لا يستطيع ممارستها بين الناس أو يجاهر بها في المجتمع، لأنه بكل بساطة، سيصطدم بحرية الآخرين، وقد قال القاضي والأديب والفيلسوف الفرنسي مونتسيكو: «تنتهي حريتك حيث تبدأ حرية الآخرين»، ومونتسيكو هو أول من نادى بفصل السلطات.

 ولا بأس لو سقنا نظرة هذا الفيلسوف الرائد للحرية، فهو يعتقد أن الحرية لا تعني أن يفعل المرء ما يشاء، ولكن ما يسمح به القانون، والخضوع للقانون لا يعني التخلي عن الحرية، والمواطن حر؛ لأن القانون يحميه، والحرية لا تعني التصرّف وفق الأهواء الشخصية؛ بل تعني الحق في عمل ما تسمح به القوانين؛ ذلك لأنه لو أُبيح لكل مواطن أن ينتهك القوانين ويتجاوزها، لما بقيت هناك حرية، لأن جميع المواطنين يسمحون لأنفسهم بانتهاك القوانين، وباختصار فقد ربط مونتسيكو الحرية بالقانون.

 ومن الأهمية بمكان أن نذكر أن القانون يظهر حيث تكون الجماعة، فهو ينظم العلاقات بين أفرادها، ويضع حقوق وواجبات كل فرد؛ بحيث لا يعتدي أحد على أحد، معنوياً أو مادياً، بينما يختفي القانون في الغرفة المغلقة؛ حيث الفرد يمارس الحرية المطلقة وفق رغباته وقيمه وأفكاره وتنشئته. ويصطدم الفرد بالمجموعة، أي يصطدم بمعايير الآخرين للقيم والأخلاق والخطأ والصواب حين يبدأ في ممارسة حريته المطلقة؛ حيث يسود القانون، وهذا ما يقصده كما نعتقد الفيلسوف مونتسيكو.

 وتتكون الشخصية الوطنية من الحريات التي يحميها القانون، أي في ممارسات وثقافات ومنظومة قيم وأخلاقيات الأفراد في العلن، وتشمل العادات والتقاليد. فهل تؤثر ممارسة الفرد للحرية المطلقة في الغرفة المغلقة في الشخصية الوطنية؟ قد يرى البعض أنها تؤثر والبعض الآخر ينفي لك، فالأول قد يتساءل كيف يؤثر المجهول في المعلوم؟ والثاني يخشى أن يقتنع هذا المجهول بحقه، فيظهر إلى العلن، وهنا سيظهر الأثر جلياً في الشخصية الوطنية، لا سيّما إن اتسم السلوك بالسلبية واللاأخلاقية.

 ويحدث هذا حين تلجأ شريحة من الناس إلى توسيع غرفتها المغلقة، لتشمل أي مساحة خارجية مغلقة، فتسلك ما يسلكه الراقص في العتمة، والعتمة لا تعني الغموض المحكم، وعدم الرؤية؛ إذ يكفي أن يرى الإنسان نفسه، وهنا لا يحتاج إلى ضوء، وحين يوسع غرفته المغلقة، فقد ظهر إلى الضوء، وهنا سيصطدم مع القانون، ومع حرية الآخرين، وتعني الحرية هنا جميع العناصر التي تتكون منها الشخصية الوطنية، علماً أن هذه الشخصية لا تنكر الفرح، ولا الاستمتاع بالبهجة والحصول على السعادة؛ بل العكس هو الصحيح، فكل ما تسعى إلى تحقيقه الحكومة الرشيدة، أي حكومة، هو تحقيق السعادة للمواطن، التي تعني الحياة الكريمة وتحقيق دولة القانون.

 لماذا يشمئز الناس من سلوك معيّن للآخرين ويشعرون أنهم يعتدون عليهم ويطالبون بمحاسبتهم؟ هم في الواقع لا يعتدون عليهم كأفراد، ولكن يعتدون على شخصيتهم الوطنية، التي تجسّد روح الأصالة والثقافة والقيم، إضافة إلى مسألة مهمة جداً، وهي القناعة بتميّز هذه الشخصية الوطنية، وسمعتها الطيبة بين الشعوب والأمم، والتي تكوّنت نتيجة عمل دؤوب متواصل، وبناء إنجازات معنوية ومادية.

 المجتمعات المتماسكة هي التي يشعر أفرادها بهالة الشخصية الوطنية تحيطهم باستمرار، وأن الفرد هو نموذج ومرآة للمجموع، وهذا لا يقلل من الإحساس بالسعادة وتجسيد الفرح. والله من وراء القصد.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yc8hs2j4

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"