في ملامح الهوية العالمية

00:25 صباحا
قراءة دقيقتين

د. نسيم الخوري

تظهر مفاهيم السلطة بالانتساب إلى اللحاء البشري رائعة بتنوعها، لكنها مقلقة بحثاً في مواصفات الإنسان المعاصر. يعنينا هذا الانتساب في أهم ما يعنيه أن الأجيال في العالم موصولة صامتة ومعبرة، وحتى صارخة قد نسمع أصداءها ومواقفها. ويتجلى العالم أمامنا إذن، جديداً وغريباً، مطرزاً بالأرقام والرموز، وأبوابه ونوافذه مشرعة للبشرية تتبادل الأصوات والصور والمعلومات والأحداث المحسوسة، وغير المحسوسة، المنطقي منها وغير المنطقي، تتدفق معظمها بالأفكار وبالأسرار، وكشف الأغطية الممكنة، أو الوهمية الكاذبة.

أصل إلى مواصفات الإنسان الرقمي، سواء أكان إبني أم إبنك، حفيدي أم حفيدك، قريبي وجاري وقريبك وجارك، لنتأمل بضمور مفاهيم القرابة والمجاورة التي بناها أجدادنا، وأورثوها إيانا، ونراها تذوب في لجج مجتمعات الشاشات والمشاهد الرقمية المعاصرة. لنقل افتراضاً إن البشرية تزود نفسها بهويات إنسانية وهمية «سائلة»، «مائعة»، و«متحركة»، تتجاوز الحدود، وقد لا تتألق سوى أمام الشاشات التواصلية، فتسقط جدران الأقنعة الحافلة بالحذر والخوف والانتباه فينتابهم جميعاً شعور بالإحباط والعجز والقهر، لكونهم يبدون عاجزين عن الانخراط في إيجاد الحلول، والتأثير في نسيج القشرة الدماغية العليا، ووظائفها وبرامجها العالمية المشهورة بصناعة الذكاء، والسكن في المستقبل المجهول.

السؤال الأكبر الذي يشغل الدنيا: أي نوع من الأدمغة يحملها، وسيحملها أولادنا وأحفادنا وقد اختلفت عنا كثيراً لتثير إعجابنا وعجزنا؟

أسارع إلى الجواب، بأن الأطفال يولدون، وينمون، ثم يستغرقون في محيطات المجتمعات الرقمية المتخمة بالألعاب الإلكترونية، والمواقع والأفلام والبرامج والمقابلات والمحادثات القصيرة جداً، والصور العنيفة، الواقعية، والخيالية الخارقة للتصور فيتحولون بشكل لا واع أجيالاً رقمية تديرهم حاجاتهم رهينة اللحظات لاتخاذ القرارات، وردود الفعل.

إنه المجتمع العالمي الأقوى أبداً. هكذا تفور الأجيال مثل الزجاجات المضغوطة بالسوائل الغازية القابلة للانفجار للهروب عبر الشاشات، ومع الشاشات، نحو العالم الواسع ب«الشورت» المفضل، والأذرع الموشومة، و«الجينز» الممزق، وتسريحات شعورهم، ومواقفهم، وردود أفعالهم، وتظاهراتهم يخطفون بها انتباه البشرية عبر «الفيسبوك» و«الإنستغرام» وغيرهما من تقنيات الإصلاح والتصويب. تتدفق الأجيال من الجنسين مسكونة بالرفض القاطع الذي يتحدى كل العوائق الطبيعية والمصطنعة من السلطات العائلية إلى الدولية، إظهاراً للقوة، والطموح إلى تغيير العقول والأنظمة. قد يكون مقبولاً لدى أحفادنا وأجيالنا أن نعاصر أجيالاً نراها تقيم أبنيتها وحيواتها كما الطيور تبني أعشاشها. لربما نبحث جميعاً عن معاني الأوطان ومواصفاتها الإنسانية في الأرض التي استهلكت، إذ يفترض تنظيف مجاريها تمهيداً لقيادة الأجيال الشابة القابضة على لوحات المفاتيح والزجاجات السحرية، تفكك تِباعاً المفاهيم المتكدسة للعلاقات البشرية والدولية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/76njpzn8

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"