طراوة الماء الأندلسي

00:08 صباحا
قراءة دقيقتين

د. حسن مدن
الورقة العلمية التي قدّمتها الباحثة الإسبانية د. نويمي فيزو في ندوة «بصمة الأندلس»، وأتينا على ذكرها في مقال الأمس، واقفين عند إشارتها إلى المفردات العربية في اللغة الإسبانية التي بلغت أربعة آلاف مفردة، تناولت موضوع «الأندلس..أثر اللغة والهندسة المعمارية». وفي هذه الورقة القيّمة، تأتي الباحثة على مكانة الماء كعنصر مكوّن حاضر من مكوّنات الحديقة الأندلسية التي أنجزها المهندس العربي يومذاك، «حيث قام بتوظيف الماء في مختلف نماذج الحدائق التي شاعت في المساجد والقصور والمنازل والميادين مستخدماً مساقط الماء والنوافير والشلالات والفوارات والمياه المتدفقة من أفواه التماثيل المنتصبة لتحقيق انسجام بين الصوت والحركة في المحيط الحدائقي، ما أبهر العالم الذي عجز عن فهم الكثير من الأسرار التي تخفيها هذه النماذج المصممة على نحو احترافي ومعرفي متفوق، فظلّت تلك المعالم الحدائقية شاهدة على عظمة الحضارة العربية الإسلامية، وصفائها الذهني ونقاء روحها المستندة إلى البعد الإيماني المتمثل بإعمار الأرض وتخصيب البيئة والتمتع بجمالياتها، والمحافظة على هذه النعم بما ينفع الناس مادياً وروحياً على نحو متوازن ويحقق لهم السكينة والاطمئنان».

علينا ملاحظة أن هذه الشهادة حول توظيف الماء في الهندسة في الأندلس يوم كانت تتكلم العربية، لم تأت من باحث أو مهندس عربي، منحاز إلى ثقافة قومه، وإنما أتت من باحثة إسبانية منصفة، كان لها من سعة الأفق ورحابة النظرة ما جعلها تقف عند ما لم نقف عليه نحن العرب أنفسنا، ونحن نتحدث عن الأثر العربي في الأندلس، حين لاحظت توظيف المهندسين الأندلسيين العرب للماء، الذي ينم عادة عن رهافة الحس وعلو الذائقة.

وأنا أقرأ ما قالته الباحثة الإسبانية خطر في بالي ما سمعته مرة على لسان الشاعر العراقي الراحل مظفر النوّاب في مقابلة إذاعية معه، عن أثر عيشه بجوار الماء لفترة من حياته، في رقة وعذوبة مفردته الشعرية، خاصة، وربما تحديداً، في شعره العامي الأكثر تميّزاً، وخصّ الفترة التي قضاها في أهوار العراق بكلامٍ عن أثر ما أسماه «البيئة المائية» في تكوين وجدان الإنسان، والفنان خاصة. قال ما معناه: إن البيئة المائية، حيث النهر أو البحر أو البحيرات، تجعل من الناس أكثر رهافة وحساسية ورقّة.

حديث النوّاب عن أثر الماء، رغم أن لا علاقة له بحديثنا عن الأندلس وماء حدائقها، يلتقي معه في إبراز أوجه رقي حضارة عربية باتت ماضياً، كان الماء أحد عناوينها، ولأن الشيء بالشيء يذكر، نُذكّر برواية لهرمان هسه، لعل بعضكم قرأها، عن رجل قال إنه صادق نهراً. ما أعذبها وأرقّها من صداقة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdfsc97m

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"