رسائل الرجل الشرود

00:05 صباحا
قراءة دقيقتين

تكشف رسائل الكاتب أنطوان دوسانت إكزوبيري الصادرة في كتاب تحت عنوان: «رسائل الشباب»، ترجمته إلى العربية روز مخلوف، عن روح عذبة، طريفة. أغرب ما في هذه الرسائل أن الكاتب اختار لها عنواناً شارحاً يقول: «إلى الصديقة المختلقة»، وهي عبارة تطرح سؤالاً عمّا إذا كانت المرأة الصديقة التي يوجه إليها الكاتب رسائله امرأة وهمية اختلقتها أو اخترعتها مخيلته، لذا فإنه جاهر بالقول إنها مختلقة، أو أنه باختصار تعمد التمويه. تتفاوت أحجام الرسائل التي يتضمنها الكتاب، لكن التفاصيل الواردة فيها لا تترك للقارئ مساحة للشك، في أنها رسائل موجهة إلى امرأة بعينها.

«إنني بالفعل رجل شرود بشكل لا يغتفر، لأن قصتك لا تزال معي، لكنني أدين لنسياني بصورة ركن ساحر فلا أندم على شيء. أردت الاتصال بك يوم الأحد لأعتذر أخيراً، لكنك لم تكوني موجودة، وعلمت أنك في حداد. لا يسعني إلا تأكيد صداقتنا القديمة، وأقول كم أنا معك بقلبي».

هذا نص إحدى الرسائل التي تنطوي على تفاصيل حياتية، وهي ليست سوى عينة تشي بهذه المشاركة التي تحققها المراسلة، بوصفها «بلسماً مضاداً للوحدة»، حسب تعبير الكاتب نفسه. وعلى هذا المنوال، تبدو الرسائل أشبه بالمشاركة الوجدانية والروحية التي ينفّس فيها الكاتب عن بعض ما يؤرقه ويقلقه. إنه يتحدث بانفتاح وعفوية، لذا فإنه يتداعى معتذراً تارة، شاكياً تارة أخرى، عاتباً ولائماً تارة ثالثة، وحاكياً وقائع وأحداثاً تارة رابعة، وهكذا دونما نهاية.

ولأن أنطوان إكزوبيري كان طياراً، فإنه كان يجد دائماً المتسع من الوقت ليحكي تفاصيل مشاهداته في البلدان التي يحط فيها، وهي مشاهدات تبدأ من ملاحظات غاية في البساطة والنباهة في آن، لتنتهي بانطباعات عن عروض مسرحية وحفلات موسيقية وأفلام يحضرها في المدن التي يتوقف فيها.

محظوظة تلك المرأة التي كانت تقرأ كل تلك الرسائل، لأنها كانت تلم بتوترات إنسان مرهف وتقلباته، وأحياناً مزاجيته الحادة، غير أن هذا بالذات ما يصنع فرادة شخص يتعاطى مع أشكال التعبير، بما فيها الكتابة.

«أنا نصف حكيم ولو كنت بقربك هذا المساء لبقيت من دون كلام طوال ساعة، منشغلاً كلياً بعدم فضح فكرة صغيرة نائمة، بالاستمتاع بها من دون قولها لنفسي. فكرة عذبة طالما أنها لا تزال نائمة».

ذاك نموذج آخر من تلك الرسائل التي تأخذ بأيدينا نحو عالم إنسان يسافر كثيراً، يكتب كثيراً، يتأمل طويلاً. ويرى أن الفكرة تظل عذبة حين تبقى نائمة،«فعند منتصف الليل ترتخي جميع القرارات، فأمنح نفسي رفاهية ارتكاب حماقة صغيرة جداً، وهزيمة صغيرة جداً، وأشرب الشاي المحلى جداً».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/y77xte7s

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"