عادي
تعيد صياغة منظومتها الدفاعية لأول مرة منذ 35 عاماً

أستراليا.. «استراتيجية أمنية جديدة»

00:07 صباحا
قراءة 6 دقائق
الرئيس بايدن مع رئيس الوزراء البريطاني ورئيس الوزراء الأسترالي

د. أيمن سمير

بناء الأسوار يمنع وصول الذئاب إلى الحظيرة».. حكمة أسترالية شهيرة يعرفها سكان القارة منذ مئات السنين، ولكن هذه الحكمة تتجلى اليوم في أبهى صورها مع توجه الحكومات الأسترالية منذ 15 سبتمبر 2021 نحو بناء «قوة عسكرية كبيرة»، نظراً لما تراه القارة الأسترالية الشاسعة - التي تمتد لنحو 8.5 مليون كلم - من «بيئة سياسية وأمنية خطيرة جداً»، وتزداد هذه البيئة خطورة ووعورة كل يوم في منطقة الإندو-باسيفك، وإقليم جنوب وغرب المحيط الهادئ.

ورغم أن أستراليا التي استقلت عن بريطانيا عام 1901 لم تتعرض لأي هجوم عسكري، ولم تدخل في حروب مباشرة إلا من جانب القوات اليابانية عامي 1943 و1944 في نهايات الحرب العالمية الثانية، إلا أن «تقديرات المواقف» الأسترالية تقول إنها يمكن أن تدخل في صراع عسكري مباشر أو ضمن التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وكوريا الجنوبية واليابان حال محاولة الصين استعادة تايوان بالقوة، وذهبت بعض الحسابات الأسترالية إلى أن أول صدام عسكري مع الصين يمكن أن يكون قبل عام 2036.

الصورة

رغم ازدهار العلاقات التجارية والمصالح الاقتصادية بين الصين وأستراليا، ووصول التجارة بين البلدين عام 2022 لنحو 290 مليار دولار، ورغم أن الصين هي «السوق الأول» للمنتجات الأسترالية، إلا أن أستراليا بدأت تتخوف من النمو الهائل للبحرية الصينية، والقدرات العسكرية لبكين، وخاصة الصواريخ بعيدة المدى والصواريخ الفرط صوتية، إضافة إلى امتلاك الصين لقاذفات استراتيجية قادرة على حمل رؤوس نووية إلى مناطق بعيدة، وتستطيع الوصول لكل شبر من الأراضي الأسترالية، ونتيجة لهذه المخاوف الذاتية النابعة من المتغيرات الجيوسياسية، أو تشجيع الولايات المتحدة لأستراليا للانخراط في «تحالفات إقليمية ودولية» لحماية نفسها، بدأت أستراليا بالفعل سلسلة من الخطوات السياسية والأمنية والعسكرية غير المسبوقة تهدف في النهاية إلى بناء «أسوار من الحماية الأمنية» بعيدة المدى على كافة المستويات والمحاور الاستراتيجية، وهو ما يعني أن أستراليا تأخذ نفس المنحى الذي اتخذته دول في المنطقة تخشى من الصين، وفي نفس الوقت تتماهى مصالحها الأمنية والاقتصادية مع الولايات المتحدة، وهذا الأمر تكرر في استراتيجية اليابان الأمنية الجديدة التي أعلنت عنها في ديسمبر 2022، وكذلك التطورات الهائلة في السياسة والأمن لدول قريبة من الصين مثل الهند وفيتنام والفلبين، فما هي ملامح الاستراتجية الأمنية والسياسية الأسترالية الجديدة ؟ وهل تؤدي هذه السياسة الجديدة إلى تعزيز السلام والاستقرار والازدهار في شرق وجنوب شرق آسيا أم أننا في مرحلة تنافس يمكن أن تنزلق إلى صراع كبير تكون أستراليا في العمق منه ؟

استراتيجية جديدة وبيئة متغيرة

كانت العلاقات الصينية الأسترالية أفضل ما تكون خاصة في القطاعات التجارية والاقتصادية، وكان لديهما «مساحة من الثقة» في الجوانب السياسية ساهمت في تطوير العلاقات بين البلدين حتى أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون في مايو 2010 في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما عن سياسة «الاستدارة شرقاً»، التي ركزت الموارد الدبلوماسية والعسكرية الأمريكية على منافسة الصين في منطقة الإندو- باسيفك، وخاصة في بحر الصين الشرقي، وبحر الصين الجنوبي، بما يشمل المناطق القريبة من الحدود الشمالية لأستراليا، وهنا بدأت أستراليا تراقب السلوك الصيني، وتخشى من كل تفوق تحرزه بكين خاصة في المجالات العسكرية، والنشاط السيبراني والفضائي، وزادت المخاوف الأسترالية مع إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في 19 ديسمبر عام 2017 عن «استراتيجية الأمن القومي» الجديدة، والتي اعتبرت الصين وروسيا «المنافستان الاستراتيجيتان» للولايات المتحدة على الساحة العالمية، وتكرست الهواجس الأسترالية من الصين عندما أعلن الرئيس الحالي جو بايدن أن الصين تسعى إلى تغيير النظام العالمي الحالي أحادي القطبية، والقائم على القواعد السياسية والاقتصادية الموروثة منذ الحرب العالمية الثانية، وسقوط جدار برلين عام 1989، ثم انهيار الاتحاد السوفييتي السابق في 25 ديسمبر 1991.

الصورة

في ظل هذه البيئة الجديدة القائمة على التنافس والمخاوف والشكوك بدأت تتضاءل مساحة «الثقة» بين الصين وأستراليا، خاصة عندما أيدت أستراليا توجه بعض الدول في بحر الصين الجنوبي نحو التحكيم الدولي حول حقوق السيادة والمناطق الاقتصادية الخالصة، وهو ما قاد إلى حصول الفلبين في يوليو 2016 على حكم من «المحكمة الدائمة» في لاهاي بعدم ممارسة الصين تاريخياً أي أنشطة في جزر سبيراتلي، وقبل عام 2016 التزمت أستراليا بالحياد لوقت طويل في نزاعات بحر الصين الجنوبي، باعتبارها طرفاً في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، لكنها تخلت عن هذا الحياد بشكل واضح في يوليو 2020 عندما قدمت مذكرة إلى لجنة حدود الجرف القاري، احتجاجاً على مطالب بكين في بحر الصين الجنوبي، ولهذا اعتبرت الصين أن دعم أستراليا - التي ليس لها حدود بحرية في بحر الصين الجنوبي- للذهاب للتحكيم الدولي سلوكاً سلبياً تجاه الصين

الاستجابة للمخاوف

رغم سعي الصين إلى طمأنة الحكومات الأسترالية المتعاقبة خلال العقد الماضي، وبعض المحاولات الأسترالية، لتحسين العلاقات بين البلدين إلا أن هناك شكوى أسترالية نفتها الصين أكثر من مرة بأن الصين تتدخل في شؤون الأستراليين من أصول صينية، كما تخشى أستراليا مما تسميه «عدم شفافية» في التحركات العسكرية الصينية في منطقة الإندو -باسفيك، خصوصاً مع بناء الصين 3 حاملات طائرات، ومنافسة الولايات المتحدة في عدد الغواصات النووية التي تعمل بالمنطقة، ولهذا بدأت أستراليا بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في عدد من الخطوات وهي:

أولاً: «استراتيجية جديدة بعد 35 عاماً»

وهي الاستراتيجية التي أعلنها وزير الدفاع الأسترالي ريتشارد مارليس في 28 سبتمبر الماضي، والتي تقوم على مراجعة كاملة وشاملة ل«الاستراتيجية القديمة» التي كانت تنظر للمخاطر فقط في المساحة الجغرافية لأستراليا وبابوا غينيا الجديدة، لكن الاستراتيجية الجديدة تدعو إلى نظرة «جيوسياسية أبعد من ذلك»، وضرورة أن يتوافر لأستراليا «ردع عسكري بعيد المدى، وذلك عبر استخدام الغواصات والأدوات الإلكترونية لإبعاد الخصوم، وهي رؤية تصيغ لأول مرة منذ 35» مهمة قوات الدفاع الأسترالي.. ومن أجل تحقيق أهداف هذه الاستراتيجية خصصت أستراليا 40 مليار دولار سنويا ميزانية عسكرية

«وبررت وزارة الدفاع الأسترالية هذا التوجه بالتنامي العسكري لبكين هو الآن الأكبر والأكثر طموحاً مقارنة بأي دولة أخرى منذ الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى أن الاستراتيجية القديمة «لم تعد تفي بالمطلوب» لحماية الأراضي الأسترالية، وأن الهدف هو«ردع الأعداء» قبل أن يصلوا إلى الحدود الأسترالية سواء في البحر أو الجو أو الفضاء الإلكتروني، وبالطبع نفت الصين كل هذه المخاوف، وقالت إن كل خطوات الصين دفاعية بالكامل.

ثانيا: شراء غواصات نووية

الصورة

تقوم الاستراتيجية الأسترالية الجديدة على اقتناء أكبر عدد متاح من«الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية»، ولهذا أعلنت أستراليا في 15 سبتمبر 2021 إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية التي تعمل بالديزل والكهرباء لصالح شراء غواصات نووية من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، فالهدف الرئيسي لأستراليا يركز على تطوير غواصات شبح بعيدة المدى تعمل بالطاقة النووية، ولهذا تقوم أستراليا بخطوة موازية وهي مراجعة أسطول القوات البحرية، للتأكد من أن السفن الحربية قادرة على التكامل مع القدرات التي توفرها الغواصات النووية الجديدة

ثالثاً: دور أكبر للصواريخ البعيدة

نظراً لأن الاستراتيجية الجديدة تقوم على الدفاع عن أستراليا خارج الأراضي الأسترالية كان لا بد من الاعتماد على الصواريخ، وخاصة الصواريخ بعيدة المدى، كان أمراً في غاية الأهمية بالنسبة لمخططي الاستراتجية الجديدة، ومن هذا المنطلق سوف تركز أستراليا في قدراتها للدفاع عن سواحل البلاد، خاصة السواحل الشمالية على الصواريخ بعيدة المدى، فما زال الأستراليون يتذكرون تعرض مدينة «داروين» الشمالية لهجوم ياباني خلال الحرب العالمية الثانية، ويقوم الاعتقاد الأسترالي الجديد على أن امتلاك العدو لصواريخ طويلة المدى قلص بشكل كبير المميزات الجغرافية لأستراليا، لهذا قررت أستراليا شراء 220 صاروخاً أمريكياً من طراز توماهوك، وهي بذلك تسير على النهج الياباني حيث أعلنت طوكيو من قبل شراء 400 صاروخ توماهوك الذي تنتجه شركة ريثيون تكنولوجيز، وهو صاروخ بعيد المدى يمكن إطلاقه من الغواصات الجديدة التي تعمل بالطاقة النووية

ثالثاً: الانضمام للتحالفات العسكرية

القيادة الأسترالية انضمت إلى جميع التحالفات والمبادرات التي أعلنتها الولايات المتحدة في منطقة الإندو- باسيفك، ومنها تحالف«أوكوس» في 21 سبتمبر 2021 والذي يجمع أستراليا مع بريطانيا والولايات المتحدة، وتحالف «كواد الرباعي» والذي يضم أستراليا والولايات المتحدة والهند واليابان، كما انضمت أستراليا من قبل لتحالف«العيون الخمس» المخابراتي الذي يضم مع أستراليا كندا ونيوزيلاندا وبريطانيا والولايات المتحدة

رابعاً: الاتفاقيات الأمنية الثنائية

الحكومة الأسترالية بدأت خطوات مهمة نحو تعزيز علاقاتها الأمنية الثنائية مع الدول التي تتقاسمها نفس المخاوف في منطقة الإندو -باسيفك، ولهذا وقعت في 22 أكتوبر 2022 اتفاقية أمنية وعسكرية مع اليابان أطلق عليها «الإعلان المشترك حول التعاون الأمني» في مدينة بيرث بغرب أستراليا، لتجديد اتفاقية أبرمت قبل 15 عاماً، وبموجب الاتفاق الجديد سوف تجري القوات العسكرية تدريبات مشتركة في شمال أستراليا، كما يتيح الاتفاق توسيع وتعزيز التعاون في مجالات الدفاع وتبادل المعلومات الاستخباراتية، نظراً لأن البلدين يملكان قدرات كبيرة في مجالي الإشارة والاستخبارات الجيوفضائية مثل التنصت الإلكتروني والأقمار الصناعية العالية التقنية التي توفر معلومات استخباراتية، كما سبق أن أجرت القوات الأسترالية والفلبينية مناورات في 25 أغسطس الماضي بالقرب من مياه بحر الصين الجنوبي التي تطالب بها الصين.

خامساً: قواعد عسكرية أمريكية

عدد سكان أستراليا لا يتجاوز 25 مليون نسمة، وحجم الجيش الأسترالي صغير نسبياً على قارة شاسعة، فلدى الجيش الأسترالي 60 ألف جندي فقط في الاحتياط، وهو ما دفع أستراليا للقبول بالقواعد العسكرية الأمريكية التي جرى الاتفاق عليها خلال العامين الماضين، وتضم بشكل رئيسي قواعد عسكرية بحرية، وقواعد للقاذفات الإستراتيجية الأمريكية، وطائرات «إف 35».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/pcetfvub

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"