الثقافة والطوفان فائق الحداثة

01:06 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

خضعت العلاقة بين الثقافة والجمهور للكثير من العوامل، منها مناخ العصر وطبيعة الثقافة، والمستوى التعليمي والمعرفي للجمهور، ورؤية القائم على الثقافة لدوره وأهدافه، وعٌرفت تلك العلاقة في العديد من الأدبيات بإشكالية «الثقافة / الجمهور»، وشكلت في كثير من الأحيان أحجية حاول الكثيرون مقاربتها من خلال عدة أسئلة، منها: كيف نصل بالثقافة إلى الجمهور؟ وما هي طبيعة المواد التي نقدمها له؟ وكيف نتجنب النزعة النخبوية؟ وما هي الأساليب التي تمكننا من تبسيط الثقافة لكي يتذوقها البشر من دون أن تفقد جوهرها؟

ولكن متابع تلك الإشكالية والمهتم بالأدوات التي مكنت الثقافة من الانتشار، يلاحظ أن الصحافة الورقية بالذات، خلخلت تلك الثنائية. وفي مراحل النهضة الحديثة ودولة الاستقلال في العالم العربي، وتعرفنا إلى الأفكار الكبرى مثل التنوير، لعبت الصحافة دوراً لافتاً في محاولة تجاوز تلك الثنائية، وبدا أن مقولة قديمة كابوسية مثل «إلجام العوام عن علم الكلام»، أي انعزال كل ما هو ثقافي في برجه العالي وعزله عن الجمهور، باتت من الماضي.

في كل الصحف حتى الخفيفة، كان هناك قدر من الثقافة، وفي بعض الصحف كانت هناك جرعات ثقافية مكثفة: قصائد شعرية، قصص قصيرة، وروايات تُنشر مسلسلة، ونقد في كافة المجالات، ومصطلحات علمية وسياسية وفلسفية تنتشر بين طبقات المجتمع المختلفة، وتعرف الجمهور إلى أسماء المثقفين، وقرأوا عن تراثنا وما يزخر به، وقدمت لهم ثقافة الآخر، وأسهمت الصحافة في تبسيط اللغة العربية وفي صناعة لغة رائقة يفهمها متوسط التعليم، ودفعت أصحاب الياقات البيضاء لكي يخرجوا إلى الناس وحثتهم على التواصل معهم، وكان هناك حراك داخل الوسط الصحفي نفسه، ووعى الكثير من الصحفيين أنفسهم كجزء من النخبة، وألّفوا الكتب واتخذوا المواقف، وتمت صناعة الصحفي النجم، الكاريزما، الذي يمتلك ثقافة عليا ويعرف كيف يتحدث وكيف يؤثر وكيف يفتعل حالة نقاش في المجتمع، واتسع أفق الإنسان العادي ولم يعد رهيناً لليومي والمعيشي فقط، بل لديه قضايا أخرى تشغله.

إن رصد تلك الحالة وتفاصيلها يحتاج إلى كتب ودراسات، وسنكتشف أن الصحافة الورقية، تحديداً، خدمت الثقافة كما لم تفعل أداة أخرى.

في عصر الإنترنت ومواقع التواصل انقلبت هذه الصورة تماماً، ولم تعد للثقافة أية أولوية أو دور، وعادت مرة أخرى إلى برجها العالي وانعزالها عن البشر، بل وبتنا نسأل هل يمكن أن تنجو الثقافة من ذلك الطوفان فائق الحداثة؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/35th5et5

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"