الغرب والمعايير «الساكسونية»

00:03 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. صلاح الغول*

أثار مقالي، الأسبوع قبل الماضي، عن «أبو الأتراك مصطفى كمال» مناقشة واسعة، استحالت في معظمها جدلاً تقليدياً عن شخصية الرجل، ودوره السياسي، وتراثه الأيديولوجي، في تركيا والعالم الإسلامي.

وليس الغرض من هذا المقال الولوج في تفاصيل هذه المناقشة، وإنما أريد فقط، توضيح أن مقالي عن أتاتورك بُني على ملاحظات مباشرة، وحوارات غير مخططة أثناء زيارة قصيرة لأنقرة، تزامنت مع الاحتفال بمئوية الجمهورية التركية، أثارت لديّ بعض الخواطر، لم أجد بأساً من إثباتها على القرطاس. غير أني لم أسع إلى التحليل، أو التقييم، وإنما إلى وصف المشاهدات، وتلخيص الحوارات، والتي أشار أحدها إلى أنه في ذكرى وفاته التي تصادف 10 نوفمبر/ تشرين الثاني، وفي الساعة 9 وخمس دقائق صباحاً تحديداً - يقف الجميع لمدة دقيقة في جميع أنحاء تركيا حتى السيارات في الشوارع، تخليداً لذكراه..

أمّا الغرض من هذا المقال فهو نقد تعاطي القوى الغربية، وغيرها للمعايير الدولية القانونية والإنسانية والحقوقية في حرب غزة. ولا أجد وصفاً أدق من مفردة «ساكسونية» لتقييم الحالة التي وصلت إليها المعايير الدولية جرّاء تطبيقها، من السياسيين الغربيين، وحلفائهم على حرب غزة. وتجب الإشارة إلى أن «ساكسونية» تُنسب إلى ولاية «ساكسونيا»، في ألمانيا حالياً، التي كانت وضعت نظاماً قانونياً عادلاً وصارماً، لكنه يُطبق بطريقة مختلفة على النبلاء والدهماء. فإذا خالف أحد النبلاء القانون، أو ارتكب جناية، يُعاقب ظله، أو «خياله». أما إذا فعل ذلك أحد العامة، أو الدهماء، يُعاقب فعلياً، أو على الحقيقة.

والواقع أن المعايير الدولية القانونية والإنسانية والحقوقية، بداية من حق الدفاع عن النفس، مروراً بحرمة القتل العمدي للمدنيين في الحرب، وانتهاء بعدم مشروعية مهاجمة المستشفيات والمدارس وغيرها من المنشآت المدنية، أصبحت ساكسونية في التطبيق الغربي؛ بمعنى أنها معايير مزدوجة، ومتحيزة، بل وعنصرية، وتخضع دائماً للتأويل، وإعادة التأويل.

فإذا بدأنا بحق الدفاع عن النفس الرائج في الخطاب الغربي لتبرير العدوان الإسرائيلي على غزة، فإنه لا ينطبق على حالتنا. فهذا المبدأ المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة يُشرع للدول استخدام القوة العسكرية لصد هجوم فعلي، أو حال على أراضيها. بيد أن إسرائيل لا تعترف بدولة فلسطينية حتى ينطبق مبدأ الدفاع عن النفس. وحتى لو تجاوزنا عن ذلك، يُستخدم المبدأ في موقف يفتقد كل عناصره المنصوص عليها في الميثاق، وهي: تناسب ردّ الفعل؛ الضرورة والتوقيت؛ مدة رد الفعل؛ وضرورة رفع تقرير إلى مجلس الأمن لاتخاذ التدابير اللازمة. فلم تلتزم إسرائيل أو حلفاؤها بشيء من ذلك، وربما لم يفكروا فيه من الأساس.

وماذا عن القتل الإسرائيلي العمدي للمدنيين في غزة والضفة (أكثر من 15 ألف فلسطيني حتى الآن، معظمهم من النساء والأطفال)؟ وماذا عن حرب المستشفيات والمدارس التي تخوضها إسرائيل على القطاع المنكوب؟ وماذا عن الحصار الشامل على أكثر من 2.3 مليون فلسطيني منذ نحو 17 عاماً؟ وماذا عن التهجير القسري واستهداف النازحين في الممرات الآمنة؟ وماذا عن المجازر العديدة التي ارتكبها الطيران الحربي الإسرائيلي بقنابل تزن نحو الطن، بإمكانها تسوية برج سكني بالأرض؟

وتكتمل الصورة، أو تزداد بشاعتها عندما نرى سياسات غربية لمنع، أو تحجيم، وربما تجريم التعاطف الشعبي مع القضية الفلسطينية، وأشكال التعبير الأخرى المؤيدة للفلسطينيين، ونقرأ ونشاهد سيولاً من الحقائق البديلة في وسائل الإعلام الغربية عن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.

‏‏ ليس جديداً أن يوصف التعاطي الغربي مع المعايير الدولية بالساكسونية، بيد أن أخشى ما أخشاه أن ينتشر مثل هذا التعاطي بين سائر الفاعلين الدوليين، بتأثير المحاكاة، أو المعاملة بالمثل، أو الثأر. ومن ثم، ينحدر العالم والبشر، إلى حالة من الفوضى، وحرب الكل ضد الكل، تماماً كما تنبأ الفيلسوف الإنجليزي «توماس هوبز» في القرن السابع عشر.

[email protected]

*متخصص في العلاقات الدولية والقضايا الجيوسياسية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5n83b6jw

عن الكاتب

كاتب متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الجيوسياسية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"