التواصل الاجتماعي.. فِتن مُؤدلجة

00:13 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. صلاح الغول*

كانت محاولة اغتيال الرئيس الأمريكي السابق والمرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية المقبلة، دونالد ترامب، في بنسلفانيا، في 13 يوليو/ تموز الجاري، دليلاً آخر على ما تزرعه وسائل التواصل الاجتماعي من فِتن وأدلجة داخل المجتمعات. ويُلاحظ أنّ «الفتنة» مصطلح تراثي-عربي مُبتكر؛ يُصوّر حال الاستقطاب، والانقسام، والنزاع الشديد بين الأفراد والجماعات، في إطار المجتمع الواحد، أو بين المجتمعات المختلفة، والذي يقود عادة، إلى العنف، وإراقة الدماء. ومن ثم، ثمّة تحذير متكرر، من المفكرين والفلاسفة المسلمين، من أخطار الفتنة، ومآلاتها.

ووفقاً لمكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي، (إف بي آي)، فإنّ منفذ محاولة اغتيال ترامب، ماثيو كروكس (20 عاماً)، الذّي لقي حتفه على يد جهاز الخدمة السرية الأمريكي، كان يعمل بمفرده، ولا ينتمي إلى أي تنظيم راديكالي، أو إرهابي. بعبارة أخرى، يمكن اعتبار «كروكس» ذئباً منفرداً آخر؛ تشبع بأفكار راديكالية وتصورات عن ضرورة التغيير العنيف عن طريق الإنترنت، والسوشيال ميديا. ومن ثم، حمل سلاحه ليترجم عملياً ما «تلقّنه» في الواقع الافتراضي. ومن هنا، نفهم تحذير صحيفة «نيويورك تايمز» عقب الحادث مباشرة، من القوة المتطرفة للإنترنت.

وفي السياق نفسه، حذرت صحيفة «الغارديان» من انتشار نظريات المؤامرة على وسائل التواصل الاجتماعي، بعد حادثة بنسلفانيا، مشيرة إلى انتشار دعوات للعنف عبر نشر الأكاذيب والمعلومات المضللة. ومع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، تضيف الصحيفة البريطانية ذائعة الانتشار، أصبح من السهل تزوير الصور والفيديوهات، لخلق فتنة، أو فتن بين المستخدمين.

وفي عالمنا العربي، لطالما حذر الباحثون والممارسون على السواء، من الدور السلبي لوسائل التواصل الاجتماعي في إذكاء الفتن، وزيادة حدة الصراعات الداخلية. ولعل أحدث هذه التحذيرات جاءت من الدكتور عبد الله حمدوك، رئيس تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية، (تقدم)، ورئيس وزراء السودان السابق، الذي أكد أن وسائل التواصل الاجتماعي تقوم بدور سلبي صاف في الصراع السوداني، الذي أفضى إلى خلق أزمة وجودية للسودان، بجانب الأزمة الإنسانية التي تُعد أكبر الأزمات من نوعها على المستوى العالمي.

ولا يغفل ذلك أن جزءاً مما يُنشر على وسائل التواصل الاجتماعي يتسم بالعقلانية، ويُسهم بدور تنويري في المجتمعات والعالم. فقد أضحت هذه الوسائل منصات فعّالة وواسعة الانتشار ذات مشاهدات مليارية، وليست مليونية فحسب؛ أسهمت في نقل عمليات التثقيف، والتنوير، والتعليم، وصناعة المعرفة، إلى مراحل جديدة غير مسبوقة من حيث انتشارها، الجغرافي واللغوي، والفئات المستهدفة.

وقد تطورت أدوات تلك الوسائل، على مدار السنوات العشرين الفائتة، من مُحتوى أُحادي الاتجاه إلى محتوى تفاعلي، بل وتطور المحتوى نوعياً، ليصبح أكثر تعقيداً، وتخصصاً. فهناك طائفة من المنشورات معنيّة بالسياسة، وأخرى بالإعلام، وثالثة بالصحة، ورابعة بالفن، وهكذا. ورغم ما تحمله وسائل التواصل الاجتماعي من منافع شتى للفرد والمجتمع، مختصرة بذلك سنوات من الجهد وبحور من المعارف في بضع دقائق معدودة، تغلب «الأدلجة»، أو «التحيز»، أو «الهوى»، على منشورات الفضاء الرقمي الاجتماعي. وهذه الأدلجة أصبح من الصعوبة بمكان تبيّنها لانتشار الحقائق البديلة («ما بعد الحقيقة» post-truth. أو «شبه الحقيقة») في الواقع الافتراضي، وتوافر الأدوات في يد الأفراد والجماعات، من تطبيقات الذكاء الصناعي المختلفة، التي تتيح لهم خلق مثل هذه الحقائق البديلة.

وعلى مستوى الدول، تعمد بعضها إلى توظيف وسائل التواصل الاجتماعي لتعزيز قوتها الناعمة، وتحسين صورتها الخارجية، عن طريق جذب الآخرين، واستمالتهم، وإقناعهم بوحدة الأهداف، والترويج لثقافتها وقدراتها الدبلوماسية والإعلامية، ومعالمها السياحية والترفيهية، وشرعية سياساتها الخارجية المتبعة، وجاذبية النموذج الاقتصادي والثقافي الذي تطرحه، وقدرتها على الاندماج الدولي. ولذلك، نفهم حرص حكومات الدول، ومؤسساتها المختلفة، على الوجود في الواقع الافتراضي، ومنصات وسائل التواصل الاجتماعي. وهذا توجه إيجابي.

ولكن لوحظ أنّ فئة أخرى من الدول، كما الأفراد، تُوظف وسائل التواصل الاجتماعي بطريقة سلبية لممارسة النفوذ على الآخرين، عن طريق التحايل، والخداع، والتهويل، والتنمّر، والتضليل المتعمد، واستخدام المعلومات المغلوطة، والدعاية والحروب الإعلامية، وقلب الحقائق، أو استخدام الحقائق البديلة؛ ما بات يعرف بأدوات الجيل الخامس من الحروب. وهذه هي القوة الحادة Sharp Power ذات التوجه السلبي، الذي يُغذي الكراهية، ويربّي الصراع والعداوة بين الدول والمجتمعات.

كما قد تُسبب وسائل التواصل الاجتماعي فتنة بين الأفراد والجماعات المختلفة، داخل المجتمع، أو بين المجتمعات، فإنّها قد تخلق فتنة أو أزمة كذلك بين الدول، والحكومات. ولكن كيف السبيل للتعاطي مع السوشيال ميديا، والحد من أدلجتها بعد أنْ غدت أكبر الوقائع اليومية في عالم رقمي؟

*متخصص في العلاقات الدولية والقضايا الجيوسياسية

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3f8rhzza

عن الكاتب

كاتب متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الجيوسياسية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"