عولمة الرقابة

00:12 صباحا
قراءة دقيقتين

عندما كتب جورج أورويل روايته اللافتة «1984»، تلك التي دخلت في صلب بعض الأطروحات السياسية، كان ينتقد مجتمعاً مستبداً تنتشر فيه رقابة الفرد، وكان المحللون، خاصة في الغرب خلال حقبة الحرب الباردة يحلو لهم أن يسقطوا الرواية وكل ما تقوله أو ترمز إليه على المعسكر الاشتراكي، وسيدور الزمن ليؤسس العالم الرأسمالي الحر لأكبر نظام رقابة عرفه البشر يوماً ما متمثلاً في منصات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، ولم تعد الرقابة الراهنة ذات أهداف سياسية وحسب، ولكنها أيضاً رقابة تسعى إلى الربح وتراكم ثروات الشركات المعولمة، هي مرحلة جديدة لم يعهدها الإنسان خلال تاريخه الطويل مع الرقابة. فلأول مرة بات هناك ما يُطلِق عليه المحامي الأمريكي إريك بركوتيز «رأسمالية الرقابة» وذلك في كتابه «أفكار خطرة».

لقد بات من المعروف الآن، أن جميع من يستخدمون الشبكة وما يتفرع عنها من مواقع وبريد إلكتروني ومنصات ومواقع تواصل.. ما هم إلا مجرد معلومات تستفيد منها الشركات الكبرى في عمليات الترويج للمنتجات المختلفة، ولكن ما يلحظه بركوتيز أن الرقابة العنكبوتية تفوقت من حيث القوة أو الجلافة أو الخشونة على الرقابة التقليدية التي كان يمارسها فرد واحد أو مجموعة أفراد في الماضي تجاه كتاب أو صحيفة، فمن خلال لوغاريتمات معقدة يمكن للقائمين على الشبكة حظر من لا يتفقون معهم في الرأي، أو ما يطلق عليه المؤلف «التطهير الرقمي». لم تعد الرقابة بسيطة مثل الماضي تتعلق بمنع خبر أو مصادرة كتاب أو إيقاف عرض فيلم، ولكنها تغولت ضد ملايين البشر وفي الوقت نفسه تقريباً.

نحن أمام حالة صارخة من تناقضات العولمة أو العالم الحر، ففي الوقت الذي كانت حريات التعبير وخصوصية البشر والديمقراطية مجموعة أفكار عاش الغرب على ترويجها منذ عدة قرون، يكتشف البشر أن هناك من يراقبهم على مدار الساعة ولأهداف عدة لا تتعلق برأي سياسي أو معارضة هذا النظام أو ذاك، ولكنها رقابة تخترق الجميع من دون تمييز. وكما رافق الترويج للديمقراطية قديماً الكثير من الوعود البراقة، صاحبت الرقابة المعولمة دعاية صنعت بذكاء ونجحت إلى حد كبير، وتمثلت في إقناع البشر، معظمهم تقريباً، أن لا وجود حقيقياً لهم إذا كانوا خارج الشبكة، off line، والأهم أن الكثيرين منا يقضون معظم أوقاتهم على الشبكة وهم يعلمون أن هناك من يتجسس على خصوصياتهم على مدار الساعة في مفارقة فانتازية لم يتخيلها جورج أورويل يوماً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/3vffnbts

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"