جرّة هيكل..

00:03 صباحا
قراءة دقيقتين

أظن أن هناك شيئاً من المبالغة في معلومة قرأتها، تفيد بأن محمد حسنين هيكل كان يحفظ عشرة آلاف بيت من الشعر، لأمر بسيط، وهو أن الشعر العربي كلّه لا يوجد فيه هذا القدر من الشعر الذي يستحق الحفظ، وإذا اعتبرت أن مختارات ديوان الشعر العربي لأدونيس والتي جاءت في ثلاثة أجزاء وغطت كل مراحل ديوان العرب لا تضم كلها عشرة آلاف بيت شعر، وهي نخبة شعرنا العربي أو نخبة النخبة، فمعنى هذا أن هيكل كان يحفظ كل ما وقع بين يديه من الشعر الجيّد منه وغير الجيّد، وفعلاً، هذا ما يفعله الكثير من المولعين بالأدب، وبخاصة الشعر منه، فالحفظ يصبح هنا شغفاً إلى حدّ إدمان القراءة، وحفظ ما يُقرأ بصرف النظر عن القيمة والمستوى.
وسواءً أكان هيكل قد حفظ عشرة آلاف بيت من الشعر أم أقل من ذلك، فهي ميزته واختلافه وجوهره الأدبي الذي أشبع شخصيته الصحفية، والرجل بهذه الحافظة الشعرية هو استثنائي وامتيازي، فلا يوجد في جيله، وما بعد جيله الصحفي، من حَفظ هذا الكم الهائل من الشعر، لا بل ربما من النادر أن نجد شعراء يحفظون ألفاً أو ألفين من القصائد، فما بالك ببعض الصحفيين العرب الذين يعتبرون الشعر فائضاً عن حاجة الصحافة، وأن صاحبة الجلالة لا شأن لها بالأدب وحتى الثقافة.
محمد حسنين هيكل ظاهرة صحفية في قلبها تماماً حالة أدبية شعرية. والظاهرة والحالة هاتان لم يجمعهما معاً وبهذه المهنية والجمالية من الصحفيين العرب سوى هيكل، وبالطبع من دون أن نسقط هذه الامتيازية العبقرية في الكتابة الصحفية عند بعض من رجال السلطة الرابعة، وهي سلطة ناعمة بل قوّة ناعمة اعتمدت في قوتها تلك على قوّة الأدب، وتحديداً الشعر.
قامت الصحافة أصلاً على أدباء وشعراء ومثقفين، لكن في ظاهرة محمد حسنين هيكل يسمح المرء لنفسه بأن يتساءل، كم من الصحفيين في دواخلهم أدب وثقافة؟ كم يقرأ الصحفي من روايات وشعر وفلسفة وفكر ونقد أدبي أو فني أو سينمائي؟ والسؤال أيضاً لكي لا نظلم الصحفي الحرفي، هو: هل لدى الصحفي من الوقت لكي يقرأ؟ وإذا كان لديه الوقت ليقرأ، لماذا لا تنعكس هذه القراءة في مادّته الصحفية؟
القراءة، ترشح من قلم الصحفي تماماً مثلما يرشح الماء من جرّة الفخّار على شكل قطرات من النّدى، ولقد كانت جرّة هيكل محاطة دائماً بذلك الماء الخفيف الذي لا يطغى على العنصر (الرملي) في المادة الصحفية، فتتحوّل إلى مادة طينية مائعة، وفي الوقت نفسه لا يغيب ذلك النّدى تماماً عن الطينة الصحفية فتتحوّل إلى حجر أو خشب.
لم تكن البنية (الهيكلية) الصحفية حجرية أو خشبية عند صاحب (خريف الغضب)، ذلك أنها بنية معزّزة فكرياً ومهنياً وجمالياً بالشعر. ذلك النّدى الذي يرشح نقياً ومُصَفّى جيداً من أي شائبة.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/2xphkkum

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"