عادي
قراءات

امرأة تنتقم من الفيلسوف نيتشه

00:52 صباحا
قراءة 3 دقائق
القاهرة: «الخليج»
في أول لقاء بينهما بروما في عام 1882، بادر فريدريك نيتشه إلى تحية لو أندريا سالومي (1861-1937) الفتاة الشابة البالغة من العمر 21 عاماً، بهذه الكلمات المنذرة المثقلة بالتوقعات: «من أي نجمين هوينا لنلتقي هنا؟» في الواقع لم يشك في أن المرأة الشابة فائقة الجمال، قد تركت انطباعاً قوياً في فيلسوف العزلة البالغ من العمر آنذاك 37 عاماً، انطباع دفعه إلى التقدم لخطبتها، بعد لقائهما مباشرة، وقبل مغادرته روما، لكن الشابة ارتأت تأجيل الرد.
في ثاني لقاء بينهما تسلق نيتشه والشابة جبل ساكرو في روما معاً، وبينما كانا في طريقهما إلى النزول، شعر الفيلسوف بامتنان عميق، وشكر رفيقته في ما بعد لـ«الحلم الأكثر سحراً وفتنة في حياتي»، قالت لو مرة لنيتشه: «إن حواراتنا وأحاديثنا تقودنا لا إرادياً إلى الهاوية.. بينما يتولد الانطباع لديك أنك تتسلق منعزلاً إلى نقطة مراقبة تنظر منها إلى الأعماق»، ومن هذا الفهم العميق والدقيق للمشهد السيكولوجي الممتد في حياة نيتشه الداخلية، انطلقت لو لتكتب هذا الكتاب، الذي قدمت فيه صورة نفسية نقدية، بقدر ما هي متعاطفة، للفيلسوف الذي شاطرته صراحته، مثلما لم يشاطره أحد آخر.
عنوان هذا الكتاب بلغته الألمانية «فريدريك نيتشه.. الرجل في أعماله» وتم تعديله إلى «نيتشه سيرة فكرية» ليناسب القارئ العربي، ويعطي صورة مباشرة لفحوى الكتاب، الذي كتبته لو سالومي (ترجمة د. هناء خليف غني)، ويراه عدنان فالح دخيل في تقديمه له «كتاباً استثنائياً».
قال عنه كارل لوفيت، إنه أبرز الإشكالات الرئيسية في فلسفة نيتشه، حيث لم تظهر دراسة أكثر منه ثراء ونضجاً، طوال السنوات الخمسين التي أعقبت صدوره عام 1894، كذلك قال عنه جورج براندس، إنه كتاب مثير للاهتمام، إلا أن ذلك لا ينفي عنه تعرضه لبعض الانتقادات، التي لم تقلل من أنه كتاب خطير، بل مضت إلى البحث عن الأهداف الخبيثة، وراء تأليفه وتحديدها، فكانت أهم تلك الانتقادات أنه يسعى إلى إثارة تفاصيل السيرة الذاتية، ووصف الكتاب بأنه فعل انتقام أنثوي من الرجل الذي اعتاد كراهية النساء وذمهن والانتقاص من قدرهن.
حفر الكتاب مسارات عميقة في تاريخ الدراسات النيتشوية، وقد وجد كثير من الدارسين أنفسهم يسبحون فيها من دون التفكير في العبور إلى ضفاف جديدة، فإذا ما تجاوزت دراسة البواعث الشخصية العميقة والجدل الغامض بين الصحي والمرضي، وهما اللذان قادا حسب لو سالومي إلى مشكلة نيتشه الجوهرية، فإن من أظهر هذه المسارات هو المبالغة في تأثير علاقة نيتشه بفاغنر، حتى إنها وصفت العلاقة بالتبعية.
ولا ريب في أن من أهمها الاعتياد على تقطيع فكر نيتشه إلى فترات كبرى، فعلى الرغم من اعتراف لو بأن فلسفته هي نتيجة تجاربه وحواراته العميقة، التي تكشف عن عقليته، وما هي إلا عمل مفرد عظيم من المذكرات اليومية، فقد قسمت أعماله وفق مراحل حياته إلى ثلاث فترات متداخلة، أما ما هو ثابت في تلك التحولات فهما وحدته وعزلته.
اكتمل عمل لو في خضم ذلك المشهد الحياتي والثقافي، وقد أثبتت في صفحات الكتاب أنها كانت على اطلاع كبير ومباشر على تجربة نيتشه الفلسفية، وأنها الشاهد الحي الوحيد على تحولاته ورغبته المُلحّة في التجوال، والتي تمتد عميقاً في فلسفته، إلى جانب تمكنها من تأكيد صحة الكثير من النتائج التي توصلت إليها، وكشفها عن الكثير من الرسائل الخاصة وعن الوقائع المشتركة بينهما، مع الحفاظ على تدفق أفكاره وتعقيداتها.
لم تغمض لو عينيها عن ألمانية نيتشه، وتعاطيه المستفيض مع مشكلات ألمانيا على قدر كبير من الأهمية، إلا أنها قبل كل شيء ذهبت مباشرة إلى فكره لإثبات ذلك، فوجدت أن ألغاز وجوده كلها هي ألغاز معرفة، إذ كلما زاد الفيلسوف تبصراً في نفسه، أضحت فلسفته كلها انعكاساً واضحاً لصورته الذاتية، لذا شددت لو على دعوة نيتشه إلى شن حرب دائمة على الذات، والإصرار على وصف نفسه بالمصارع الذي صرع نفسه.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/4ydhfm28

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"