زايد.. وإنسانية الفكر

00:03 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. صلاح الغول*
في أحد مقالاتي السابقة، طَرحتُ مفهوم «الدولة الإنسانية»؛ وهي نموذج من الدول، تُضمِّن نظامها العقيدي قيماً إنسانية عامة غير محملة بإيحاءات أيديولوجية، وتصيغ توجهاتها الخارجية في إطار الدائرة الإنسانية، وتولي القضايا الإنسانية الكبرى اهتماماً مكثفاً، وتتصور لنفسها دوراً إنسانياً في العالم. وفي ذلك المقال، رأيتُ أنّ هذا المفهوم، الذّي يجب أن يأخذ مكانه في الكتابات السياسية، ينطبق على دولة الإمارات العربية المتحدة. واليوم، أدفع التحليل قدماً بالمحاجة أنّ الشيخ زايد، طيب الله ثراه، هو الذي غرس فسيلة الدولة الإنسانية في المنطقة.

يُعد الدور الإنساني لدولة الإمارات إذاً، أحد أهم إسهامات فكر زايد، ويستند إلى إطارٍ فلسفي، يُلخص معالم النموذج الإماراتي، الذي أسسه، والذي يجمع خليطاً مبتكراً من عناصر إنسانية عالمية، تتضمن التنوع الثقافي والتضامن الإنساني والعيش المشترك والتسامح؛ ومقومات إسلامية موجِهة تُشدد على التكافل والتضامن والأخوة الإنسانية؛ وقيمٍ قبلية أصيلة تجعل من الكرم، ومد اليد والإيثار، وعدم التخلي عن الأشقاء والأصدقاء وقت الشدة، والتكاتف والشهامة، من أهم معايير الشرف القبلي.

وتأسست رؤية الشيخ زايد، رحمه الله، للدور الإنساني لدولة الإمارات من تصورٍ شامل، يتسم بالتجرد والشمول والتنوع، وينبع من المعتقدات والقيم التي يؤمن بها، ولا ينفصل عن تحقيق الأمن الإنساني العالمي. ولعل في هذه القصة الرائعة خير تمثيل للتصور الإنساني للشيخ زايد. فيروى أنه في ثمانينات القرن الفائت، عندما كان صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، رئيس الدولة، حفظه الله، ضابطاً يافعاً في القوات المسلحة، ذهب في رحلة خاصة إلى تنزانيا، حيث التقى بقبائل الماساي وتعرف إلى عاداتهم، وعاين انتشار الفقر في مناطقهم. ولدى عودته إلى أبوظبي، اتجه لمنزل والده، الذي بادره بالسؤال، بعيد سماعه تفاصيل الرحلة، عمّا فعله لمساعدة الناس الأقل حظاً الذين التقاهم في تنزانيا، فأجاب الابن الشاب، بما يعني أنه لم يفعل شيئاً؛ لأنّ هؤلاء الناس «لم يكونوا من المسلمين». وهنا، كما روى صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد لاحقاً، «مسك والدي ذراعي ونظر في عينيّ بقسوةٍ، وقال لي: كلّنا رعايا الله»! وقد وعى الضابط الشاب تماماً هذا الدرس الزايدي الكبير، ولاسيما عند توليه المناصب العامة، ثم تدرجه فيها حتى غدا رئيساً للدولة، حفظه الله.

بعبارةٍ واحدة، فإنّ العمل الإنساني، في تصور زايد، هو في الأساس عمل أخلاقي، بعيداً عن أية مصالح براغماتية أو مشروطية سياسية، يحقق مراد التضامن الإنساني الذي لا يعرف الحدود أو الحواجز، وترى الهمّ الإنساني حاضراً باستمرار ضمن أجندته، ويتجه إلى بذل العون والمبادرة بالغوث إلى «رعايا الله»، من دون تمييز على أساس اللون أو العرق أو الدين، ويجعل الحاجة هي المعيار الوحيد لذلك.

ولذلك، كان البعد الإنساني توجهاً أصيلاً للسياسة الخارجية الإماراتية في ظل قيادة المغفور له الشيخ زايد، الذّي أدرك أهمية الدبلوماسية الإنسانية أو المساعدات الخارجية، كونها أحد أهم روافد القوة الناعمة للدولة؛ حيث إنّ لديها القدرة على تشكيل صورة الدولة النمطية في عيون العالم، والتواصل مع الجيران والعالم الواسع عن طريق إرسال رسائل إيجابية للصداقة والشراكة.

وأسس الشيخ زايد لدور إنساني خارجي للإمارات، يتسم بالشمول والتنوع؛ حيث لا يقتصر على تقديم المساعدة أو المعونة، وإنما يدمجها ضمن جهد تنموي طويل الأجل، يسهم في تنمية المناطق التي توجه إليها. وقد أبانت خبرة زايد وخلفائه أنّ الدور الإنساني الخارجي لدولة الإمارات لا ينفصل عن تحقيق الأمن الإنساني العالمي. ولذلك، تحرص دولة الإمارات على التحرك، وتقديم المساعدة إلى المحتاجين إليها في إطار مفهوم إنساني عالمي مجرد، وأصبحت عنصراً فاعلاً في جهود المواجهة الدولية للتحدّيات الإنسانية، وباتت حاضرة بقوة في مجالات المساعدات الإنسانية ومساعدات الإغاثة الطارئة، وطويلة الأمد في مناطق العالم كافة.

وأخيراً، وليس آخراً، فإنّ نموذج الدولة الإنسانية الإماراتي، الذّي أسسه الشيخ زايد، رحمه الله، نموذج أصيل يجد أصوله في الحضارة الإسلامية التي تحتفي بتنوع الملل والنحل والأعراق، في إطار التسامح الإنساني، ويقوم على التلاحم الإنساني بين المواطنين والمقيمين، الذي قل مثيله في العالم.

[email protected]

*متخصص في العلاقات الدولية والقضايا الجيوسياسية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/5ha73ntf

عن الكاتب

كاتب متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الجيوسياسية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"