عادي
صدر في الشارقة

«عودة الروح».. رواية تقاوم النسيان

23:00 مساء
قراءة 5 دقائق
«عودة الروح».. رواية تقاوم النسيان

الشارقة: علاء الدين محمود

في عام 2019 صدرت النسخة العربية من رواية «عودة الروح»، للكاتبة الغانية- الأمريكية يا جسي، عن إصدارات «روايات»، ترجمة أحمد حسن المعيني، وتعد إحدى أفضل روايات العالم في قوائم «نيويورك تايمز»، ونادي «أوبرا» للقراءة، ومجلة «تايم»، و«إسكواير»، وصحف: «الجارديان»، و«واشنطن بوست»، والرواية تعبر عن صوت إفريقي متفرد في السرد والتعبير عن الأحلام والهموم لدى الأفارقة في عصور وأزمنة مختلفة، خاصة في عهود الاستعباد، وتعمل على نقل وتصوير المشاعر بصورة تجعل القارئ متورطاً في حب العمل وشخوصه.

في هذه الرواية تمارس الكاتبة فعل العودة إلى الجذور؛ حيث تأخذ القرّاء في دهليز تاريخي خيالي إلى دولة غانا التي تقع في عمق إفريقيا، في القرن الثامن عشر؛ حيث تجارة الرقيق في الغرب الإفريقي، وتأثيرها في أجيال وحقب بغانا وكل القارة السمراء، فهي تتبع هذه الرحلة بنفاذ بصيرة الروائي في نظرته للأشياء، ورصد تأثيراتها الاجتماعية والنفسية والثقافية، وقد استلهمت الكاتبة هذا العمل خلال زيارتها إلى الوطن الأم غانا عام 2009، وبينما كانت هناك، قامت بجولة في قلعة «كايب كوست»، ذلك المكان الذي يظهر بشكل بارز في الرواية، والذي شبهته إحدى بطلات العمل بالقرية الكبيرة.

حكاية

تتناول الرواية قصة لأختين في غانا خلال القرن الثامن عشر، ولدتا في قريتين مختلفتين من دون أن تعرفا بعضهما، إحداهما تتزوج تاجر عبيد أبيض، وتعيش مرتاحة في غرف قلعة «كيب كوست»، الفارهة، بينما الأخرى يتم أسرها خلال غزوة على قريتها؛ لتسجن في قبو القصر نفسه مع آخرين؛ ليباعوا عبيداً للإنجليز، ويتبع السرد طريقين متوازيين للأختين وسلالتيهما من الأحفاد عبر ثمانية أجيال، من ساحل الذهب في غانا، إلى عصر الجاز في حي «هارلم» الأمريكي.

شتات

الراوية تقع في 346 صفحة من الحجم الكبير، وهي تحمل رائحة ذلك التاريخ الذي هيمن على القارة الإفريقية ولا يزال، هو عهد الاستعباد وأثره الثقافي والاجتماعي في سكان إفريقيا، حيث لا تزال تلك الحقبة تحمل تأثيرها الكبير، وتشكل حضوراً قوياً على إنسان القارة، وكل السود في مختلف أنحاء العالم، حقبة مسؤولة عن الشتات الإفريقي.

تعبّر الرواية عن كل تلك العوالم، من خلال أحداث القرية صغيرة في غانا لمجموعة سكانية ضمن أراضي قبيلة «الفانتي»، لكن الحكاية، أشبه بقصة إفريقيا كلها في أزمنة الاستعباد، سرعان ما نمت جذورها عبر الأحداث المتواصلة، وتشعبت إلى نحو أبعد من القارة الإفريقية، وتشابكت مع قصص أخرى في ما وراء المحيط.

الرواية تقف شاهداً على تطور السرد الإفريقي، وتعلن بروز صوت قوي متمثل في يا جسي، التي تسير بخطى قوية في عالم الرواية، إذ فازت روايتها الأولى «الذهاب للوطن»، التي نُشرت عام 2016، بجائزة «جون ليونارد» لأفضل كتاب أول من دائرة نقاد الكتاب الوطنية، وجائزة «القلم»، عن أول كتاب روائي، وجائزة «5 تحت» من مؤسسة الكتاب الوطنية، وتلك الجوائز تشير إلى المكانة التي وصلت إليها جسي، التي نجحت في التعبير عن أصولها الإفريقية بجدارة، ولعل رواية «عودة الروح»، هي بمثابة تتويج لرحلة إبداعية وصلت إلى مرحلة النضج.

بداية

وتكمن براعة الكاتبة في الاستهلال المحكم الذي يفضي إلى أحداث العمل وتفاصيله من خلال تمهيد يحتشد بالجماليات تقدم من خلاله الكاتبة قصة بطلة العمل، حيث نقرأ في تلك المقدمة السردية: «ولدت إفيا أوتشر، في تلك الليلة الحارة نفسها التي استعرت فيها النيران في غابات أرض الفانتي، على مقربة من مساكن والدها. كانت النار تذرع الأمكنة، تشقّ طريقها يوماً على إثر آخر، تقتات بالهواء ثم تغفو في الكهوف، تختبئ وراء الأشجار، وتأتي على كل ما يقف في طريقها، غير عابئة بما تتركه من حطام، إلى أن وصلت إلى قرية الأشانتي، هناك توارت وتوحدت مع الليل الحالك»، بتلك اللغة الجميلة، استهلت الكاتبة أحداث الرواية ومنعطفاتها المتشابكة، وكأنما أرادت المؤلفة أن تقول: «من هنا بدأت الحكاية»، من قرية صغيرة مجهولة في غانا في قلب إفريقيا لتسافر عبر سفن تجار العبيد صوب أمريكا نحو عالم جديد ومختلف.

المهمشون

الرواية عبرت عن عوالم تكاد تكون منسية بالنسبة للآخر؛ أي الإنسان غير الإفريقي، ومثل هذه الأعمال السردية تقاوم النسيان بقوة، فهي تعبر عن المهمشين، حيث وصفها النقاد بأنها مترعة بالمشاعر، استطاعت عبرها جسي أن تهب صوتاً قوياً وبطولياً نادراً للمنسيين والمقموعين، وقد استقبلت الرواية بحفاوة كبيرة في الغرب وسط النقاد والمشتغلين بالأدب، حيث وصفها الكاتب الأمريكي فيل كلاي بأنها: «تصور الثقل الروحي للتاريخ وهو يتخلل صراعات الفرد وآماله»، وذلك الوصف ينطبق بصورة كبيرة على الرواية، فأبطالها أشخاص عاديون لكنهم يمثلون جيلاً، بل أجيالاً من الرجال والنساء في إفريقيا، حيث يرصد السرد عذابهم وحياتهم، وأثر ذلك الأمر في الشخصية الإفريقية في الداخل والخارج.

مفارقات

العمل جاء محتشداً بالرؤى الفكرية والفلسفية والنفسية، وتتسرب المفاهيم الخاصة بالمؤلفة بكل يسر داخل الأحداث، ولعل اللافت إلى جانب ما المعاني والأفكار التي يحملها، هو السرد وجمالياته من حيث قوة الوصف لمجتمع القرية لقبيلة «الفانتي»، والتشبيهات والأمثال العميقة، ورصد العادات والتقاليد، في تفاصيل سرد يحمل العديد من التقنيات، حيث تحضر السخرية بقوة في التعبير عن المفارقات والتناقضات، على ما جرى من حوارية بين الأب وابنته، إذ قال مخاطباً إياها: «جاء الرجل الأبيض ليتزوج من بناتنا وسوف يأتي غيره كثيرون، أما أنت يا ابنتي فأنا أدخرك لمستقبل أكبر من أن تعيشي زوجة لرجل أبيض، سوف تتزوجين رجلاً من قريتنا!»، والعمل يحتشد بمثل تلك المشهديات والصور البارعة في تكوينها بحيث لا تبدو مقحمة على النص، بل جزءاً أساسياً من تفاصيل الأحداث، وتعبر في الوقت نفسه عن بساطة أهل القرية، ففي هذا المقطع، فإن الأب لا يعتبر زواج ابنته من الرجل الأبيض شرفاً أو شيئاً يدعو إلى الفخر، بل إن زواجها من أبناء قبيلته أو قريته هو الذي يصنع لها شأناً.

اقتباسات
* العائلة كالغابة؛ إذا نظرت إليها من الخارج وجدتها كثيفة، وإن نظرت من داخلها وجدت أن لكل شجرة موضعها.

* كانت (أكويا)، مفتونة بلون الماء، ولم تعرف كلمة تصف ذلك اللون، لأنها لم تر شيئاً مثله في عالمها، لا الأشجار الخضراء، ولا السماء الزرقاء، ولا الأحجار أو الطين.

* طفق أهل القرية يتحدثون عن أن الطفلة ولدت من النار، فلم يجر حليب في صدر أمها.

* الحب البسيط كشربة ماء.

* تموت الأشياء حينما يحاول المرء جاهداً أن يبقيها حية.

* هكذا جاء الرجال البيض إلى قريتهم، منهم البدين ومنهم النحيف، منهم الأحمر، وفيهم من سفعته الشمس.

* كان قوياً كما لو أن بمقدوره أن يحمل عشر نساء فوق رأسه ويمشي بهن في اتجاه الشمس.

* لها جسد امرأة، ولكن شيئاً شريراً يتربص بروحها، إن تزوجتها فلن تنجب لك أطفالاً أبداً، وإن توجها الرجل الأبيض ستزدهر القرية.

* أخذ بطن آنا يكبر أكثر فأكثر، وكان الطفل (آتش)، يعلن وجوده كل يوم بضربات ولكمات في أحشاء أمه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/yc8f6dh5

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"