فانتازيا الحرّيّات في القواعد

00:08 صباحا
قراءة دقيقتين

قلت للقلم: إلى أين تأخذنا بشطحاتك اللغويّة التراثيّة؟ قال: إنّما وددت أن أشهدك على التناقضات، فالعرب يخشون على لغتهم ما لا يخشونه على شعوبهم وأوطانهم. عجيب أن يتصوّروا أن العربية ليست هي العرب، وأن العرب ليسوا هم العربية. يقيناً سمعوا بالمقولة: «لا يمكن فصل الرقص عن الراقص». يخافون على العربية الضعف والتردي، في حين لا يروّعهم انهيار البلدان وذهاب ريح الدول. يزلزل وجدانهم أن ينصب أحد الفاعل ويرفع المفعول، وكأن من بين كل مئة عربي، تسعين من ابن جنّي، الفرّاء، الكسائي، ابن هشام، الزجّاجي...

قلت: أرى عفاريت الأفكار تلعب الجمباز في ذهنك، فما القصة؟ قال: «والله لو بحت بأيّ حرفٍ.. تكدّس الهاجون في الدروبِ». أرجو ألاّ تثور ثائرتك فأنا أغبط اللهجات العاميّة أحياناً، على تطوّرها عبر السنين، وعجائب الابتكار فيها. أوَ لم يقل طه حسين إنه: «لا يخشى على الفصحى غير عامّية بيرم التونسي»؟ الفصحى صارت أكاديمية صارمة الضوابط، كل حركة فيها ولو قيد أنملة، لها ألف حساب.

قلت: أنا لا أحبّ التنظير، هات أمثلة ملموسة، حتى يتبيّن لي الحرف الأبيض من الحرف الأسود. قال: أنا لا أتحدث عن أيامنا هذه، فشرايين الابتكار تجمّدت في الفصحى والدارجة على السواء. ثم لا تتوهم أنني سآتيك بنظرية تغيّر الفيزياء. كل ما يهمني هو ألاّ يرهب العربيّ لسانه، فالعربية ملك لنا، هي حياتنا وفكرنا وروحنا، فلنا أن نتصرف فيها بحريّة، ولكن بإبداع.

قواميس اللغات الحيّة في الغرب، كل عام هي في تجدّد، في نطاق علم تطوّر الدلالات، والتحولات التي تطرأ على الاستخدام والمعاني. لا أدعو إلى تقليد العامية في التغييرات التي تدخل عليها. لكن تأمّل هذا المرح وهذه الدعابة في جعل ما لا يجوز في المبنى والقاعدة والقياس، نوعاً من الطرافة الجمالية. مثلاً: في أغنية فايزة أحمد نجد هذا الجناس الكامل الظريف: «يمّا القمر ع الباب.. نوّر قناديلُه... يمّا أردّ الباب.. ولاّ أنادي لُه». في أغنية العندليب الأسمر، نرى ما هو خروج عن القافية تماماً بمقاييس الفصحى، ولكنه مثار أسئلة نقدية جدلية: «أبو عيون جريئة»، نجد في قوافيها: دقيقة، الحقيقة، و«في بحوره الغريقة»، البحور هي ذاتها غريقة. مرسي جميل عزيز اختار البحار الغرقى، بينما الصورة العادية: «في بحوره العميقة». أو كما في الدارجة «الغميقة».

لزوم ما يلزم: النتيجة الغائيّة: الآن عليك نسيان الموضوع كله، فالهدف هو أن الفانتازيا في اللغة، ليست جريمةً ولا استهتاراً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bddm49zp

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"