عادي

ماذا لو اختفت شبكة «الإنترنت»؟

22:20 مساء
قراءة 5 دقائق
ماذا لو اختفت شبكة «الإنترنت»؟

محمد إسماعيل زاهر

تصور لنا بعض المواقع بما تحتويه من آراء وتوجهات، أن شبكة الإنترنت أصبحت ضرورة حياتية لا غنى عنها، والأهم من ذلك أن معظم من يستخدمون الشبكة، وربما غيرهم أيضاً، يعتقدون ذلك، والأكثر أهمية ومدعاة للتأمل أن الطرح المضاد لا يمكن تصوره، أعنى: «ماذا لو اختفت «الإنترنت»؟»، والمثير للملاحظة أن هذا السؤال مطروح على الشبكة نفسها، ولكن الإجابة عنه تشعرك بأن اختفاء الإنترنت سيعود بالبشرية مئات السنين إلى الوراء.. إلى البدائية.

يتحدث بعضهم عن كوارث متلاحقة إذا اختفت «الإنترنت»، تطول كل أوجه الحياة، بداية من انهيارات اقتصادية كبرى، وليس انتهاء بتعطل شبكات الماء والكهرباء، وما تسكت عنه تلك السيناريوهات «المأساوية» أنها لا تخبرنا بالمدى الزمني الذي سيستغرقه البشر لتجاوز هذه الكوارث، والأهم أنها لا تلتفت أو تتجاهل أن تذكر أن البشر عاشوا من دون «إنترنت» فعّالة ومتوغلة في مختلف مظاهر الحياة حتى بداية الألفية الثالثة، أي أن عمر الشبكة لم يتجاوز ربع قرن حتى الآن، المهم أن يقتنع قارئ هذا السيناريو المستقبلي، وهو مزعج بالطبع، أن الإنترنت ضرورة حياتية لا غنى له عنها.

هنا لا يهمنا سيناريو اختفاء الإنترنت على قطاعات التواصل والاقتصاد و الأعمال... إلخ، وأتصور أن تجاوز البشر لهذا الاختفاء لن يستغرق طويلاً، رغم الخسائر الناتجة عنه في تلك القطاعات، ما يعنينا هو الثقافة.

  • أثر مباشر

ترافق صعود الإنترنت مع هبوط حاد للثقافة وعلى المستويات كافة: في الأفكار والفاعلين المؤثرين «المثقفين التقليديين» ونوعية المنتج الثقافي، وصولاً إلى ما يبشر به بعضهم من عودة «مرحلة الشفاهية»، وهي أثر مباشر ل«الإنترنت».

في البداية كنا جميعاً نشعر بأننا أمام مرحلة معرفية غير مسبوقة في تاريخ البشرية، كانت «الإنترنت» في الظاهر مستودعاً لكل ما أنتجه الإنسان من معارف، وبدا للجميع أن مشاكل البحث التي اعترضت طريق الجميع أصبحت تنتمي إلى الماضي، ولكن بمرور السنوات تراجع البحث الفكري، وربما العلمي، إلى مستويات ملحوظة، كانت النتيجة الأولى انتشار الأبحاث الجماعية، وغياب البحث الفردي بما يتحلى به من وجهة نظر شخصية وروح تؤدي إلى النقاش وربما تفتح باب الرد والتحليل بما يسمح بصدور بحث آخر وثالث وهكذا وهو ما عهدناه في تاريخ التأليف، وأصبحت الأبحاث الجماعية هي السائدة، وفي مرحلة لاحقة توقف ما يخص التفكير جملة وتفصيلاً، الفردي منه والجماعي، وأصبحت عندما تذهب إلى دار نشر بكتاب فكري نظر إليك صاحب الدار شذراً إلا إذا كنت من الأسماء المكرسة التي تنتمي إلى جيل ما قبل الإنترنت، والذي بالمناسبة لا يزال موجوداً معتمداً على فيديو هنا أو هناك على الشبكة يثير ضجة بسبب إشارته إلى هذه الفكرة الحساسة الواردة في كتاب ما. هذا الوضع لا يتعلق بالفكر وحسب ولكن بالشعر والمسرح المكتوب أيضاً.

قيل الكثير من الأسباب في توصيف الحالة السابقة، منها مثلاً أن سلسلة متواليات نهايات الفكر والنقد... إلخ، والتي أعلنها المثقفون أنفسهم في حقبة تسعينات القرن الماضي هي سبب تراجع هذه الحقول، ولكن «الإنترنت» بآلياتها هي التي أقالت، بالفعل، هذه الحقول الإبداعية.

  • تحولات

إن الجلوس إلى الشبكة وبالتبعية الهاتف المحمول ومواقع التواصل لا يسمح، في حد متوسط من الاستخدام، بكافة الظروف الواجب توافرها للتفكير أو الكتابة الشعرية أو التركيز في تجربة إبداعية، فضلاً عن ما يتضمنه هذا الجلوس من قبس من خفة ينتاب الإنسان مع طول التعرض والاستخدام. هذا الوضع ينطبق على القراء أيضاً، فمعظمهم وعلى مدار التاريخ انتموا إلى فئة القراء العابرين، الذين يحتاجون إلى التشجيع على القراءة، هذا الجمهور الضخم ترك القراءة إلى غير عودة، أو هو يكتفي بقراءة العناوين أو بمطالعة 140 كلمة على موقع x، وهي ثقافة لا تختلف عن ثقافة السماع كثيراً. أما القارئ النهم، فتراجع تركيزه في القراءة، فبفرض أنه يقرأ ورقياً أو إلكترونياً فهناك تنبيهات لا بد أن يتابعها خلال فترة القراءة: رسالة بريد إلكتروني أو واتس آب أو فيسبوك... إلخ، من هؤلاء القراء كان يأتي الكتاب والأدباء في عملية فرز طويلة ودائرية ومعقدة لم نعد بحاجة إليها الآن.

إن أي بحث أو تفكير أو إبداع أو حتى عمل جاد يتطلب التفكير، في أحد وجوهه هو بمنزلة التحدي الذي يواجهه من يريد النجاح، ما فعلته «الإنترنت» ببساطة أنها قتلت روح التحدي، ما عليّ للإجابة عن سؤال ما يؤرقني إلا أن أكتبه على غوغل، والآن الذكاء الاصطناعي، فلماذا أذهب إلى المكتبة وأتحدث إلى الآخرين وأنعزل قليلاً للتفكير في هذا التحدي، وكلها أفعال أكسبت الأجيال السابقة خبرات عدة وقدرة على البحث والإبداع، وحتى عندما أنسى تلك المعلومة أو شطراً شعرياً ما، فأبسط ما أحتاج إليه هو سؤال الشبكة، ولا عزاء للذاكرة أو قدرتنا على الحفظ، هل تتذكرون ذلك الشاب الذي ذهب إلى أحد شعرائنا وسأله النصيحة لأنه يريد كتابة الشعر فنصحه بحفظ ألف بيت ثم نسيانها لكي يستطيع الانخراط في قول الشعر، هل تسمح «الإنترنت» الآن بحفظ ألف بيت شعر؟، هل تساعد هذا المفكر أو ذاك على قراءة مئات الكتب للخروج بفكرة جديدة؟، هل نحن على استعداد لبذل هذا الجهد، ولماذا وجع الرأس وإحدى الكاتبات اليابانيات فازت بأهم جائزة روائية هناك، ساعدها على كتابتها الذكاء الاصطناعي؟

  • أداة

الكتابة هي الأداة التي يستخدمها المبدع لإرسال ما يود قوله للقارئ، التجويد في الكتابة، أي الكتابة الأدبية، كان دوماً بمنزلة التحدي، ولكن لندع التحديات فالإنترنت قضى عليها، ولنعد إلى الكتابة البسيطة والعادية تماماً. أنتمي إلى جيل كان يُكلّف في إجازة منتصف العام بكتابة منهاج القراءة المدرسي، كتاب المطالعة، المقرر مرة أو اثنتين، كان التكليف آنذاك بالنسبة لطفل أشبه بالعذاب، ولكن عبر هذه الكتابة المطولة تحسن الخط، مسألة لا قيمة لها الآن طالما أكتب بواسطة الحاسب الآلي، وحفظت شكل الكلمات وبعض قواعد النحو من دون الحاجة إلى التخصص أو التبحر فيه، الآن ليس المطلوب على مواقع التواصل الاجتماعي إلا كلمات قليلة موزعة غالباً على كلمة عربية وأخرى عامية وثالثة أجنبية مع أخطاء لا حصر لها في الهجاء، وربما تستوقفك كلمة وتقرؤها أكثر من مرة حتى تعرف ما هي الكلمة الصحيحة التي يقصدها صاحبها، كان الحديث في الماضي عن الشفاهية من باب التنظير أو الرفاهية، ولكن لو استمر مفعول الإنترنت قائماً ستحل الشفاهية بحكم الأمر الواقع، لم يعد يتحلى أحدهم بالصبر لقراءة مقال من ألف كلمة، أو يسعفه مخزونه الثقافي واللغوي لكتابة رواية كبيرة نسبياً، فدخل معه المحرر والمصحح، وبات القارئ النهم يفكر أكثر من مرة لمطالعة كتاب كبير نسبياً.

ويبدو من الظاهر أن «الإنترنت» صعدت بالرواية، فرغبة الحكي انتابت الجميع، ولكن أي رواية صعدت؟، هل هذه اللغة التقريرية التي نقرؤها في معظم الروايات الحالية لغة أدب؟ هل الشخصيات المسطحة التي لا عمق لها هم بشر يعيشون على الأرض لهم نوازعهم وآمالهم وأحلامهم؟ هل الرواية هي مجرد حدوتة جذابة متصاعدة الأحداث؟ كلها أسئلة تؤكد الإجابة عنها أن الرواية تعيش أسوأ عصورها الآن.

  • إقالة

لم تؤثر «الإنترنت» في الكتابة والقراءة بالسلب وحسب، ولكنها أقالت من الوجود فئة المثقفين التقليديين، وجاءت بنخبة المؤثرين، وإذا كانت الفئة الأولى ارتكبت أخطاء استدعت النقد أو الهجوم العنيف أحياناً، فإن الفئة الثانية ترتكب خطايا العبث المتواصل، والأهم المرئي، بالعقل.

إن التأثير السلبي الأكبر للإنترنت كان في قطاع الثقافة، مع نشأة جيل يفتقد إلى قيم الصبر والإتقان في العمل والبحث الدؤوب عن حلول لمشكلاته يفكر فيها بعقله ويعاني مخاضاتها، ويفتقد إلى قيمة التواضع ولا يعرف مرجعية ولا يعترف برمز، ويعيش في أكثر من واقع في الوقت نفسه ويعتقد وهو الأخطر أن الثقافة ليست أكثر من ترفيه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/55u8jj9d

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"