عادي

تبسيط الفلسفة.. مهمة المثقفين الغائبة

00:38 صباحا
قراءة 4 دقائق

محمد إسماعيل زاهر

في مراحل سابقة من تاريخنا الثقافي الحديث كان هناك اهتمام لافت بالفلسفة، وذلك على المستويات كافة، كانت ركيزة أساسية في مشروع النهضة العربية بدءاً من الأعلام الأوائل وتقريباً حتى بداية الألفية الجديدة. آمن كبار منورينا ومفكرينا بأن الفلسفة رافعة الثقافة وقاطرتها، وأنه لا أدب أو نقد أو مسرح أو تشكيل، ولا حتى قدرة على التفكير الصحيح من دونها، ولذلك كان بمقدورنا أن نعثر على قبس منها وراء كل تيار ثقافي أو فني، وأن نلمح ظلها في خلفية كل معركة أدبية أو فكرية.

على مدار عقود طويلة، خلال القرن العشرين، لم تكن الفلسفة، على عكس الفكرة الشائعة، معزولة في أبراج عالية، ولم تكن حبيسة الجامعات والأكاديميات، ربما يصح ذلك على الفلسفة في معناها الضيق شديد التخصص، و من هذا المنطلق فهي لا تختلف عن الأدب والفنون، فدقائق أي علم لم تكن يوماً متاحة للجميع، ولكن ما نقصده هنا مدى تداول الفلسفة في الفضاء الثقافي العام، ويمكننا القول: إنها كانت شائعة حتى وصلت إلى الأفلام والمسرحيات، وكثيراً ما شاهدنا أحدهم يتحدث عن «العبث» وعن «الوجوديزم– من الوجودية»، وإن كان هذا الحديث يأتي في سياق يعتبره بعضهم سخرية أو كوميديا إلا أنه كان مؤشراً جيداً يوضح لنا مدى انتشار الفلسفة في وسائل الإعلام الجماهيرية، وأنها كانت تؤثر في ساحة ثقافية متسعة بامتداد المنتج الإبداعي بأكمله.

جدل طويل

هذا الشيوع نجده في كل معركة أدبية، وفي اختلاف وجهات النظر والرؤى حول الأدب والفن وطرائق التعاطي معهما، وزوايا معالجتهما، وكيفية الوصول بهما إلى الجمهور، ولا ننسى الجدل الطويل حول هل نصنع الفن متخلصين من أي شيء بخلاف قواعد الفن أم نحرص أن يكون معبراً عن الواقع، وفي الخلفية كانت هناك مجلات فلسفية، ومفكرون يكتبون في الصحف العامة عن الفلسفة: مذاهبها وأعلامها، ومفكرون آخرون يتابعون كل جديد في ساحة الفلسفة العالمية، وفريق ثالث أخلص لفكرة التنوير وآمن أن الفلسفة ركن العقل وأن لا تقدم من دون إشاعة التفكير العلمي والمنهج العقلاني، فكانوا يكتبون بدافع تعليم المتلقي القدرة على تشغيل آلة الفكر، وحثه على طرح السؤال وإثارة شغفه، وفريق رابع ظل مخلصاً للفلسفة الأكاديمية يدور في فضاء «المضنون به على غير أهله»، وفريق خامس داعبه طموح تأسيس فلسفة عربية، وفريق سادس حاول أن يقدم تنظيراً جديداً يتعلق بمعنى الفلسفة وفتش في التراث واعتبر علم الكلام فلسفة إسلامية خاصة بنا. وهناك من بسط الفلسفة، وأصدر نتاجاً تشعر وأنت تطالعه أنك تقرأ قصة أو رواية، لا يستوقفك تعقيد الأسلوب أو صعوبة ناتجة عن طبيعة العلم نفسه. هي بساطة لن تجدها اليوم، مهما قرأت، فهناك في رفوف محال بيع الكتب مؤلفات حديثة تبسط الفلسفة ولكنها أقرب إلى السذاجة أو تمزجها بأبعد حقل معرفي بعيد عنها ونعني مجال تطوير الذات، فنجد أنفسنا أمام كتابة مسطحة تشيع الجهل لا التنوير وتأخذ من معارفك ولا تمنح عقلك أو روحك أي شيء. كانت الفلسفة شائعة ومؤثرة، بطرائق عديدة، وذات زخم وجاذبية، وذلك حتى أواخر القرن الماضي، عندما انهال علينا الكثيرون بإعلانات «النهايات»: نهاية الأفكار الكبرى، موت الناقد، موت المثقف..الخ، فصمت الجميع عن التعاطي مع الفلسفة، وانزوت في الأكاديميات أو الكتب المتخصصة وربما قرأت في هذا الموقع أو ذاك موضوعاً فلسفياً ولكنه يفتقد إلى الروح السابقة، لا حياة فيه، وأحيانا ما يتعمد كاتبه الغموض أو هو يعجز عن التبسيط أو يؤمن بأن الفلسفة لا علاقة لها بالجمهور.

أعتقد أن هذه الظاهرة التي نعيشها منذ عقدين، عربية بامتياز، ففي الفترة نفسها قرأنا ترجمات لأعمال دافيد لوبروتون وآلان دوبوتون ولوك فيري وجان هيرش وألبرتو مانغويل خاصة في كتابه «الفضول» بما يؤكد أن الفلسفة لا تزال متداولة في الفضاء العام في ثقافات أخرى، وهؤلاء وغيرهم، يكتبون الفلسفة بأسلوب يبعث على الدهشة ويربطونها بمختلف مفاصل الحياة، ويدفعونك إلى وضع الكتاب جانباً أحياناً وتأمل فكرة يناقشونها أو التعليق بالقلم على هامش الصفحة بخصوص أطروحة تتعلق بالأخلاق أو السعادة أو القيم.

تقرير عاجل

حال الفلسفة في العالم العربي لا يسر، وهو يحتاج إلى تقارير معرفية ترصد وضع الفلسفة ومدى انتشارها في: مناهج التعليم، وسائل الإعلام، الإنترنت، النشر، وقدرتها على التأثير في المنتج الثقافي من دون الخوض في جدل أيهما يؤثر في الآخر المناخ الثقافي عامة أم الفلسفة؟، أي بمعنى: هل أدت الأزمة الثقافية التي نعيشها إلى تراجع الفلسفة أم العكس هو الصحيح؟، فهو جدل غير مثمر ولن نجني منه إلا محاولة كل طرف التنصل من مسؤولياته والإلقاء بعبء إشكالياته على مشجب الآخر، وفي وسط هذا الحال الذي لا يسر أظن أن هناك مهمة ملحة وعاجلة ولكنها غائبة ونعني بها العودة إلى تبسيط الفلسفة بكافة الأشكال المتاحة، تبسيط من دون تسطيح، وربطها بالحياة ومشكلاتها، والتفكير وآلياته، وهي المهمة الأساسية التي تنتظر كل المثقفين وكل مهموم بالفكر، لعلّنا نوقظ الفلسفة من سباتها العميق.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/45w9bnes

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"