«المُحَقَّق».. الخط خزان الجمال

الشارقة: جاكاتي الشيخ
ظل الخطاط السعودي سراج رضا علاف، وفياً للخط العربي الأصيل، رغم توجهه في دراسته الأكاديمية إلى مجال هندسة الحاسبات، ما أدى إلى تكوين شخصيته الفنية المنفتحة على التقنيات الحديثة والثقافات المختلفة، والمتمسكة في الآن نفسه بمدرسة الخط التقليدي التي تستلزم الإبقاء على المعايير الفنية الرصينة، لإثبات قابلية هذا الفن للاستمرار في إشباع رغبات المتلهفين إلى مكامن الجمال.

لقد أسهمت دراسة علاف لأصول الخط العربي في معرفته للمبادئ الدقيقة التي يمكنه من خلالها التعبير في إبداعاته بأسلوب رصين، فقدم العديد من الأعمال بأنواع هذا الخط المختلفة، مبيناً تباينها في القدرة على تشكيل جمال الحرف العربي، ومن بين تلك الأنواع خط المُحَقَّق الذي خط به اللوحة التي نستعرضها هنا.

• دور تاريخي

اختار علاف للوحته نص المقولة المأثورة «رحم الله امرَأً عرف قدر نفسه»، وخطها بالمحقق الذي يعتبر واحداً من أقدم الخطوط العربية، فهو أحد جذور خط الثلث، وكانت المصاحف تُكتب به قديماً مع خط الريحاني لجمال حروفهما، كما كانت تكتب به الدواوين الشعرية أيضاً، واستمرّ استعماله في تركيا ومصر حتّى القرن الثاني عشر، ويتميز بكونه من أحسن الخطوط وأصعبها على الكتابة، فهو خط مرسل الحروف، وقليل التقويسات، وجميل السطور، ومن خصائصه أنّ منتصباته أطول من سائر الخطوط، وألِفه مستقيمة، وعيون حروفه مفتوحة في جميع الأحوال، وحركاته لطيفة، كما أنه خطّ ضخم ذو جلال، وغير متداخل الحروف، ويُرسم بشكل واحد، وبوضوح تام، ولا نجد في حروفه أي تشابه، فلكلّ حرف شكل ثابت، باستثناء اللام والكاف، وهي الخصائص التي حرص علاف على الالتزام بها في لوحته هذه.

إن المقولة التي اختار علاف للوحته حكمة بليغة، تدعو إلى معرفة الإنسان بنفسه، التي تؤدي إلى معرفته بقدرها، وهو تحذير وتنبيه له، لكي لا يتجاوز حدوده مع الآخرين، وخاصة الذين يعلونه شأناً، سواء في المعرفة والعلم أو في المكانة والجاه، أو في أي شيء آخر، فهي دعوة للتواضع وعدم التهور لطلب ما لا يحق، أو الدخول في شؤون الآخرين التي تتجاوز مستواه الشخصي، وقد تعمد الخطاط اختيار خط المحقق لكي تصل رسالته القِيَمية والفنية بسلاسة تامة.

• وضوح

أشار علاف في توقيع هذا العمل إلى كتابته بطريقة المشق، وهي الكتابة المباشرة من دون إعداد مسبق، وذلك ما يعتبر تحدياً يظهر قدرته الفنية وتمكنه، ورغم ما تبدو عليه اللوحة من وضوح؛ إلا أن تنفيذها بخط المحقق لا يمكن أن يكون سهلاً، كما أسلفنا، لما يستلزم من قواعد صارمة تجلّت في أسلوب التنفيذ، حيث خط النص بشكل أفقي على مستويين، كتب في الأول «رحم» براء خفيفة التقويس؛ مرسلة تحت الحرفين الآخرين للكلمة، وحاء مفتوحة العين وميم مرسلة تحت اسم الجلالة «الله»، الذي كتب ألفه منتصبة في استقامة تامة، ثم كتب «امرأً» براء مرسلة أيضاً، وألفين كحال الألف السابقة، فيما كتب الهمزة مستقلة في الجانب، ليحقق للألف خاصيتها الآنفة، وكتب «عرف» بعين مفتوحة العين كذلك وأرسل الراء والفاء، في ما كتب في المستوى الثاني «قدر» بدال كبيرة مفتوحة العين، وراء مرسلة، وكتب «نفسه» بوضوح تام، موحياً بدخولها في كلمة «قدر» للإشارة إلى بقاء النفس عند قدرها، وقد أراد من خلال فصل المستويين التأكيد على ضرورة معرفة ذلك القدر والتزامه، ولطف الله بالملتزم به، ولا يخفى ما أضفته الحركات البارزة من جمال على هيئة الشكل.

كما يَظهر استخدام علاف للورق التقليدي للخط العربي المعروف ب«المقهر» للتنبيه على عراقة هذا الخط، خاصة مع الكتابة باللونين الأسود والأحمر، اللذين شكلا مع لون الخلفية تناسقاً موحياً بالأصالة التي يعد هذا الخط أحد أهم تجلياتها، كما كان لطريقة كتابة توقيعه استدعاء لدوره التاريخي في كتابة النصوص.

• إضاءة

ولد علاف سنة 1980، وهو حاصل على بكالوريوس هندسة كهربائية وحاسبات سنة 2003، وماجستير هندسة حاسبات سنة 2016، وباحث دكتوراه في المجال نفسه، ويعمل مهندساً استشارياً في الشركة السعودية للكهرباء، وقد تعلم الخط العربي بطريقة كلاسيكية ومنهجية صارمة من خلال الدراسة المنتظمة في أروقة المسجد الحرام بمكة المكرمة لدى أستاذه الخطاط الشهير إبراهيم العرافي، حتى حصل منه على الإجازة، فصار عضواً مؤسساً في الجمعية العلمية السعودية للخط العربي، وحصل على جوائز عدة في الخط بالسعودية، وعمل مشرفاً ومحاضراً في تظاهرات عدة في المجال، من بينها الإشراف العام على فعاليات الخط العربي ضمن معرض الكتاب بجدة لعام 2017م، وبرنامج الإثراء الشتوي بجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، وشارك في معارض عدة في بلاده، وفي دول أخرى من بينها تونس ومصر واليابان وكندا، كما حكّم مسابقات خطية عدة، وهو أحد مؤسسي موقع «حروفيات» المعني بالخط العربي ورئيس مجلس إدارته.