عادي

الحضارة ابنة الآداب العظيمة

19:42 مساء
قراءة 4 دقائق

الثورة الأبجدية التي بدأت في الشرق الأوسط واليونان، سهلت على البشر إتقان الكتابة، ورفعت من نسبة القراءة والكتابة، والثورة الورقية التي بدأت في الصين، واستمرت في الشرق الأوسط قللت من كلفة الأدب وغيرت طبيعته، كذلك مهدت الطرق لثورة الطباعة التي نشأت أول ما نشأت في شرق آسيا ثم شمال أوروبا بعد مئات السنين، وتخللت تلك الثورات ثورات صغيرة مثل اختراع ورق الرق في آسيا الصغرى.
يؤكد مارتن بوكنر في كتابه «العالم المكتوب.. تأثير القصص في تشكيل البشر والتاريخ والحضارات»، ترجمة نوف الميموني، أن الإسكندر الأكبر كان يركز على ثلاثة أغراض يحملها معه في حملاته العسكرية ويحفظها تحت وسادته: أولها خنجر، إلى جواره صندوق، بداخله يحتفظ بنسخة من الإلياذة، كان يخشى أن ينال مصير أبيه الذي اغتيل، فكان ينام والخنجر تحت رأسه، أما الصندوق فحازه من غريمه الفارسي داريوس، وأما الإلياذة فجلبها إلى آسيا؛ لأنه كان يرى أن في قصتها تتجسد حروبه وحياته، فكانت النص التأسيسي الذي سلب فؤاد القائد الذي سيغزو العالم.

*نص تأسيسي

احتلت ملحمة هوميروس مكانة النص التأسيسي في الثقافة اليونانية لأجيال متعاقبة، لكنها كانت للإسكندر بمثابة النص المقدس، ولهذا السبب كانت تصحبه في حملته العسكرية، وهذا ما تفعله النصوص لا سيما التأسيسية منها، كان الإسكندر الأكبر معروفاً بأنه ملك غير عادي، لكن تبين لنا أنه كذلك كان قارئاً غير عادي.
لم تكن الإلياذة في بدايتها أدباً مكتوباً بل حكايات مروية تناقلها الناس في تقاليد خاصة بها، وكانت أحداث القصة تدور في عالم نشأ قبل وقوع حروب الإسكندر الحديثة وقبل نشوء الكتابة، وكانت الأبجدية اليونانية وأدب هوميروس قد سبقا الإسكندر إلى آسيا، لكن بعد وصوله انطلقتا معه إلى مناطق أبعد بكثير، لم تكن لتصل إليها لولاه.
كان لهوميروس دور محوري في هذا الاجتياح اللغوي، ليس لأن الإسكندر فضله على البقية، بل لأن الإلياذة هي النص الذي تعلم منه الجميع القراءة والكتابة، والواسطة الرئيسية التي نشرت الأبجدية واللغة اليونانية، فأصبحت الإلياذة نصاً تأسيسياً لا يضارعه أي نص.
يشير مؤلف الكتاب إلى أن بعض النصوص التأسيسية مثل ملحمة جلجامش والملاحم الهوميرية نجت؛ لأنها ألهمت ملوكاً ذوي سلطة بإنشاء مؤسسات تكفل صمودها وتحفظ وجودها.
في الفصل السابع من كتابه يكتب مارتن بوكنر عن غوتنبرج ومارتن لوثر وجمهورية الطباعة الجديدة، مؤكداً أن الاختراع وليد عقل عبقري غيّـر وحده العالم، لكن الحقيقة هي أن الاختراعات نادراً ما ترى النور بهذه الكيفية، فلم يكن لغوتنبرج السبق في ابتكار فكرة استخدام أحرف متحركة وجمعها معاً لتكوين صفحة من نص يمكن طباعته، سبقه آخرون إلى ذلك، بعد تطوير عملية الإنتاج طرح غوتنبرج السؤال الأهم: ماذا سيطبع؟ وعمل على أكثر الكتب رواجاً آنذاك «النحو اللاتيني».
لم يدم التحالف بين الكنيسة والطباعة، فمن دون أن تدرك الكنيسة أو يتنبأ غوتنبرج حركا بتعاونهما قوى سوف تغير الكنيسة من خلال تغيير دور الكتابة والقراءة، ولم تفهم الكنيسة أنها ستكون ضعيفة أمام التقنيات الكتابية الجديدة، ولم تتوقع كذلك أن الشخص الذي سوف يستغل نقطة الضعف هذه هو راهب، لا يحمل أدنى اهتمام بتقنيات الكتابة بأنواعها على الإطلاق، بل كان راضياً بالإنجيل المطبوع، وكان متى أراد أن يعبر عما يختلج في نفسه يستعمل الريشة والورق.

*سجال

كان مارتن لوثر أول نجم من نجوم صناعة الطباعة الحديثة، وأستاذ الخطاب السجالي المطبوع، وعندما أدركت الكنيسة أنها لن تغلبه نظمت أول حرق عام لكتاباته، كان حرق الكتب استعراضاً مسرحياً، لكن لم تكن نتائجه فعالة، لا يمكن لحرق الكتب مجابهة طوفان الطباعة التي صار لوثر خبيراً في توجيهه لنقد الكنيسة، والمطابع قادرة على طباعة مواعظ لوثر أسرع مما تستطيع الكنيسة حرقها، لا سيما أن حرق الكتب لا ينتج عنه إلا ضخّ المزيد من الطبعات إلى السوق.
وكان قادة الثورة الروسية أعلم من غيرهم أن النصوص المتداولة سراً مثل «البيان الشيوعي» هي التي مهدت الطريق لوقوع ثورتهم، وأن هذا النص تغلغل إلى عالم الفن، وألهم نشوء حركات ومدارس فنية وأدبية وثورية، حتى أن تروتسكي كرّس جزءاً من وقته لتأليف كتاب «الأدب والثورة»، وهو كتاب عن الحركات الأدبية الجديدة، وفيه هاجم الشاعرة آنا أخماتوفا التي لم تكن قد تجاوزت الثلاثين من عمرها آنذاك، ووصف أسلوبها بالمهجور.
كانت أخماتوفا تعيش في مجتمع عالي الثقافة، ومع هذا تضطر إلى اللجوء لحفظ أعمالها غيباً، ووصفت وضعها هذا بأنه «ما قبل غوتنبرج»، وصرحت ساخرة: «نحن نعيش بشعار فليسقط غوتنبرج»، وتراخت قيود الرقابة على أخماتوفا في الأربعينيات من القرن الماضي، وما كان ذلك إلا لأن أهوال الحرب العالمية الثانية حلت محلها، وهاجر كثير من أصدقائها، لكنها رفضت الرحيل عن البلاد.

*دور لا ينسى

بعد موت ستالين ستلتقي أخماتوفا مع كاتب شاب اسمه سولجنتسين، حاز جائزة نوبل فيما بعد، وستقرأ عليه قصيدتها الشهيرة الممنوعة «قداس جنائزي» توفيت أخماتوفا قبل فوز الكاتب الشاب بالجائزة الكبرى بأربع سنوات (عام 1966)، وسمحت لها السلطات بالسفر لتلقي جائزة أدبية في صقلية، ودكتوراه فخرية، بترشيح، واستغرق إعادة الاعتبار الرسمية لأخماتوفا 22 سنة حين ألغى غورباتشوف الرقابة، وكان الاتحاد السوفييتي في طريقه للتفكك، بسبب سباق التسلح خلال الحرب الباردة التي بالغت أخماتوفا في الحديث عن دورها في إشعال هذه الحرب.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mv4mpdaz

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"