إسرائيل تتجاهل «يومها التالي»

00:01 صباحا
قراءة 4 دقائق

تحدثوا كثيراً عن «اليوم التالي» لغزة، لكنهم لم يتفقوا بشأنه، نتنياهو له رؤية، ويوآف غالانت له أخرى، وللجيش رؤية ثالثة، ولكل من المخابرات والأجهزة الأمنية رابعة وخامسة، وبن غفير وسموتريتش سادسة، وللولايات المتحدة رؤى عدة، رؤى كثيرة، لكنها انفعالية وغير مدروسة وليست قابلة للتطبيق.
وعلى الرغم من تعدد الرؤى الإسرائيلية فكلها تصب في خانة واحدة، وهي إما الإبادة أو التهجير القسري والهدف التوسع وتكبير مساحة دولة إسرائيل، وهو الأمر الذي طالب به صراحة الرئيس الأمريكي السابق والمرشح الرئاسي دونالد ترامب، لكن دول الجوار ومعظم دول العالم ترى أن مصير غزة يحدده أهلها.
حكماء العالم يرون أن القضم والتوسع سيضعان المنطقة على فوهة بركان ناشط، ويرون أن استقرار المنطقة مرهون بإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1976، وهو الأمر المرفوض إسرائيلياً من نتنياهو وحكومته، والذي صوت ضده «الكنيست» في جلسة ليلية، وكأن ظلام الليل سيمنع العالم من رؤية فعلهم وتشريعهم اغتصاب الحق الفلسطيني.
مشغولون باليوم التالي لغزة ويريدونه مفصلاً على مقاس طموحاتهم وأحلامهم، ومتجاهلاً لإرادة أبنائها الذين دفعوا ثمن أحداث 7 أكتوبر دماً ودماراً وخراباً وتشرداً وجوعاً وعطشاً وعجزاً على مدار ما يقرب من 11 شهراً، دفعوا ثمن فعل لم يقترفوه ولم يعلموا عنه قبل حدوثه شيئاً، ولا يشغلهم اليوم التالي لإسرائيل، وكما أن غزة اليوم وغداً لا تشبه غزة ما قبل السابع من أكتوبر، فإن إسرائيل اليوم وغداً لا تشبه إسرائيل ما قبل التاريخ ذاته.
غزة ضاعت ملامحها تماماً وتشرد شعبها وفقدت أكثر من 40 ألفاً من أبنائها ودمرت مدارسها ومستشفياتها وتيتم أطفالها وتشوش شبابها، وإسرائيل تشوهت ملامحها وأصبح شعبها فاقد الثقة في قياداته وفي أجهزته الأمنية وفي جيشه الذي فقد مئات من جنوده وأصابت الحرب الآلاف بأزمات نفسية وأفقد اقتصادها أكثر من 80 مليار دولار.
كثير من الإسرائيليين يعيشون اليوم في خوف من المستقبل بعد أن أدركوا أن أمنهم مهدد وأمانهم في متناول الفصائل الفلسطينية وغيرها من لبنان وإيران والعراق واليمن ودول أخرى. إسرائيل أيضاً تخشى اليوم التالي، وعلى الرغم من أنها لا تتحدث عنه إعلامياً فإنها تنتظره، وملامحه ستتضح أكثر بعد أن تتوقف هذه الحرب.
المجتمع الإسرائيلي يعاني تصدعاً غير مسبوق، على الرغم من أنه مجتمع يعاني عدم التوافق خصوصاً أنه ينتمي إلى عرقيات مختلفة، لكنه كان يحاول أن يصدّر للعالم صورة المجتمع الموحد، واليوم تعصف به الانقسامات والتصدعات الداخلية، حسب مجلة «فورين بوليسي» الصادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية، التي تؤكد أن تل أبيب تسير على طريق العنف والتدمير والاستبداد، وتنجرف نحو مستقبل أكثر قتامة، تستهلكها الاضطرابات الداخلية في ظل اتساع الشقوق التي تهدد بتفككها.
بيني جانتس، رئيس حزب معسكر الدولة الإسرائيلي، حذر من اندلاع حرب أهلية بسبب سياسات حكومة بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، فيما يصف يائير لابيد زعيم المعارضة الحكومة الحالية بأنها «حكومة الفوضى الشاملة»، والحكومة لم تعد تستطيع إخفاء تصدعها، صراعات كانت خفية وأصبحت معلنة أمام الكاميرات بين رئيسها نتنياهو ووزير دفاعه غالانت، وتهديدات بين يوم وآخر من وزير الأمن الداخلي بن غفير ووزير المالية سموتريتش بإسقاطها، وأزمات بين قيادة الجيش والقيادة السياسية.
الإعلام هناك اتهم نتنياهو مراراً بإطالة أمد الحرب خوفاً على مستقبله السياسي وخشية من المحاكمة على التقصير الأمني يوم السابع من أكتوبر وعلى إدارة الحرب بعشوائية أكدها خروج الجيش من عدة مواقع في غزة وعودته إليها مرات ومرات.
التصدع سياسي وعسكري ومجتمعي، تظاهرات في الشوارع وأمام «الكنيست» ومنزل نتنياهو وآخرين من حكومته تطالب بوقف الحرب وتظاهرات ترد عليها تطالب باستمرارها، استطلاعات رأي تنحاز للحكومة وأخرى تؤكد التخلي الشعبي عنها، قنوات تلفزيونية تسلط الضوء على المجازر التي يرتكبها الجيش في غزة والانتهاكات التي يرتكبها جنوده في حق الأسرى العزل والتي وصلت إلى الاغتصاب الجنسي واستخدامهم دروعاً بشرية في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني، وقنوات تثني على الحرب وتطالب بالمزيد من المجازر والعمل على اجتثاث كل ماهو فلسطيني.
الانقسام بين اليهود العلمانيين والمتدينين يتعمق، وقد أدى إقرار إلزام اليهود المتدينين (الحريديم) بالخدمة في الجيش إلى تأجيج التوتر بين هذه الفئة ورعاتهم من رجال الدين والسياسة وبين الدولة. المجلة الأمريكية رسمت صورة قاتمة لما قد تبدو عليه إسرائيل، مؤكدة أنها قد تتحول إلى نوع من الكيان المقسم إلى أجزاء، حيث تعمل العناصر اليمينية الدينية والقومية على بناء دولتها الفعلية، في مستوطنات الضفة، أو قد تشهد تمرداً للمتطرفين الدينيين والقوميين المتطرفين من شأنه أن يقسم إسرائيل ويدخلها في حرب أهلية عنيفة بين جناح اليمين الديني المسلح وأجهزة الدولة القائمة.
كلام «فورين بوليسي» ليس كلاماً انفعالياً خصوصاً أنها مجلة وزارة الخارجية الأمريكية، لكنه تعبير عن مأزق سببته الحرب على غزة أو على الأقل كشفته وفضحته، فالفوضى ليست بعيدة، وتوزيع ايتمار بن غفير أسلحة على المواطنين ومطالبتهم باستخدامها قد يعجل بهذه الفوضى، فهم اليوم يستخدمونها ضد الفلسطينيين، لكنهم غداً قد يستخدمونها ضد بعضهم، وستنمي ميليشيات المستوطنين المسلحين، وتعدد الجهات المسلحة وليس مستبعداً أن يؤدي الأمر إلى اشتعال حرب أهلية.
اليوم التالي لإسرائيل والذي تتجاهله عمداً سيكون صعباً، فالدولة المحمية من أمريكا والغرب تغيرت نظرة العالم إليها، فهي مهددة بالعزلة، مدانة من محكمة العدل الدولية بالإبادة الجماعية، قادتها مطاردون من الجنائية الدولية، وسياساتها مرفوضة رسمياً وشعبياً من دول عدة.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mu2n9v46

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"