التأخر وإشكالات سؤال الشرعية

06:17 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

قليلة هي القراءات العربية الجدية التي ناقشت مشكلة التأخر في عالمنا العربي من منظور الشرعية، والمقصود هنا اشتقاق الشرعية السياسية، وإعادة تجديد تلك الشرعية. فقد ذهبت بعض القراءات السياسية/ الأيديولوجية في تفسيرها لواقع التأخر إلى نسف الشرعيات المؤسسة للكيان الوطني، على اعتبار أن تلك الشرعيات هي بحد ذاتها، المسؤولة عن واقع التأخر، بما كانت عليه، أو ما ترتّب عليها، ومثالاً على ذلك حالة الرفض المعلنة منذ تأسيس الأحزاب القومية والإسلامية والأممية لاتفاقية «سايكس بيكو» التي أسست لمعظم الدول العربية.
من الناحية المعرفية الخالصة، وفي ما يتعلق بالمسألة التاريخية لنشأة الكيانات/الدول، فإن معظم الدول التي نعرفها اليوم عرفت لحظات تأسيس معينة، وانزياحاً كبيراً عنها، كما في أوروبا، لكن حالة الرفض الدائمة للحظة التأسيسية ليس فقط مسألة عصابية؛ بل أنها في الأساس تشير إلى نقص معرفي كبير حول تطوير مفهوم الشرعية، أو التحولات الهائلة التي طرأت على طرق توليد الشرعية السياسية للأنظمة السياسية، ليس فقط بكونها أنظمة حكم سياسية، وإنما أنظمة إدارية وقانونية، وأيضاً أنظمة اقتصادية/اجتماعية.
من الجانب الوصفي لمسألة الشرعية، فإن الشرعية مرتبطة بشكل عضوي بتحقيق النظام الاجتماعي المستقر، وهو ما اعتبره عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1864-1920) أساس الشرعية السياسية، حيث يؤكد أن الشرعية بغض النظر عن مصدرها، فهي «تفسر لنا كيف أن الإيمان بنظام اجتماعي يؤدي إلى انتظام اجتماعي أكثر استقراراً من تلك النظم التي تنتج عن السعي لتحقيق المصلحة الذاتية، أو من اتباع القواعد المعتادة»، لكن هذا الجانب الوصفي يبقى حكم قيمة عاماً، وهو على الرغم من أهميته، فإنه يبقى وصفياً فاقداً للمعيارية، حيث لا توجد شرعية سياسية بعيداً عن الجانب المعياري.
إن الجانب المعياري في فهم شرعية الأنظمة السياسية الحديثة هو الجانب المرتبط أشد الارتباط بمسألة العدالة، ليس من باب التمييز، أو خلق التمييز، بين مسألتي الشرعية والعدالة، وجعلهما مفهوماً واحداً؛ بل من باب وضع أسس محددة وواضحة للكيفية التي يمكن من خلالها أي من خلال أدلة قابلة للقياس التحقق من مستويات تحقق العدالة، والتي تحقق (أي العدالة) في الوقت ذاته، أو تغطي جانباً كبيراً من جوانب الشرعية.
ما يهمنا في الجانب المعياري لمسألة الشرعية، وعلاقة هذا الجانب بالعدالة، أن نتناول ظاهرة التأخر في عالمنا العربي من الجانب المعياري وليس من الجانب الوصفي الذي يتضمن بدوره إحالة بطريقة أو بأخرى إلى التاريخ؛ إذ إن الإشكالية الرئيسية اليوم في مسألة الشرعية تتعلق بمعيارية النظام السياسي، ومدى تحقيقه لشروط إنتاج شرعية حديثة، كشرط ضروري لا غنى عنه للخروج من حالة «التعطل» إلى حالة الفعل.
إن التمييز بين الدولة المدنية وبين السلطة السياسية هو أمر مفصلي في فهم مسألة الشرعية، وقد كان الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1632 1704) أول من قدم تمييزاً أساسياً بين الدولة المدنية والسلطة السياسية، من حيث العلاقة مع الشرعية، حيث اعتبر أن شرعية السلطة السياسية في الدولة المدنية ترتبط ب«انتقال السلطة بشكل صحيح»، وهو ما نطلق عليه اليوم النظام السياسي الديمقراطي؛ إذ إن الموافقة العامة على النظام السياسي هي أساس الشرعية.
إن النظر إلى ظاهرة التأخر العربية، بالوقائع والأرقام، المرتبطة بالتعليم والصحة وسوق العمل، والتشاركية والتنمية وهجرة العقول، وغيرها من المقاييس الضرورية لقياس مدى تقدم المجتمع أو تأخره، تقودنا إلى طرح أسئلة جدية حول مسألة الشرعية، فما نراه ونعاينه من سقوط وتلاشٍ وفشل لدول في منطقتنا، مسألة يمكن تحليلها وفهمها انطلاقاً من مسألة الشرعية؛ إذ إن تأسس الدول على شرعية ما تاريخية، بغض النظر عن رأينا فيها، سلباً أو إيجاباً، هي مجرد عامل واحد فقط، لكن سياق بناء النخب والأنظمة السياسية للشرعية، هو العامل الأساسي في تجاوز إشكالات ومشكلات التاريخ، وبقاء الدول هو من بقاء شرعيتها التي أصبحت في عالمنا المعاصر شرعية معيارية وليست وصفية/ أيديولوجية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"