كابوس في «أرض الأحلام»

03:11 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق

الظلم الاقتصادي الفادح، هو جوهر المشكلة الحقيقية التي تعيشها أمريكا والتي تحولت إلى كابوس مخيف يهدد استقرار المجتمع.

كما أن الولايات المتحدة هي أرض الفرص، وجنة الحالمين بالثراء والرخاء والوفرة، فهي أيضاً بلاد الظلم المر والعدل المفقود في توزيع الثروة والدخل. ملايين الأمريكيين يعيشون على الهامش يلهبهم الإحساس بظلم صارخ يزرع بذور الغضب في نفوسهم، ويُحولهم إلى قنابل موقوتة لا يحتاج انفجارها سوى شرارة صغيرة، مثل قتل مواطن أسود على يد شرطي أبيض عنصري.

وتظهر دراسة لمكتب الميزانية التابع للكونجرس أن ثروات الطبقة الأغنى تتضخم منذ عقود بمعدلات تفوق الشرائح الأخرى. وقد ارتفع متوسط دخل الأسرة في الشريحة الأعلى وتمثل 1% فقط من السكان، بواقع 226% (مئتان وستة وعشرون) في الفترة من 1979 وحتى 2016.

وعند توسيع نطاق الشريحة لتشمل 20% من السكان، تُظهر الأرقام ارتفاع دخل الأسرة بنسبة 79%، كما سجلت الأسر الفقيرة زيادة أيضاً بنسبة 85%، إلا أن دخلها زهيد من الأساس، بينما لم تتجاوز الزيادة في دخل الطبقة الوسطى، وهي العمود الفقري للمجتمع، 47%.

أحد الأمثلة المهمة المعبرة عن تفاقم التباين الصارخ في توزيع الدخل، يرصده معهد السياسات الاقتصادية، ويوضح أنه في عام 1965 كان دخل المدير التنفيذي في الشركات الكبرى يزيد على دخل العامل العادي بعشرين مرة، ثم قفز الفارق إلى 278 ضعفاً في 2018. وتوجد فجوة مماثلة في حجم التعويضات التي يتلقاها كل طرف، فقد زادت في حالة المدير التنفيذي بنسبة 900% من 1978 إلى 2018، بينما لم تزد على 11,9% للعامل.

هذا على مستوى الدخل. أما الثروة؛ أي مجموع الممتلكات بما فيها الدخل، فالوضع أشد ظلماً. ففي الفترة من 1989 حتى 2016 زاد نصيب أغنى 10% من الأسر من 67% إلى 77% من ثروة البلاد، في حين لا يمتلك القابعون أسفل السلم الاجتماعي (ويشكلون 63 مليون أسرة) إلا 1% من الثروة.

وعندما جاء الانتعاش بعد الأزمة المالية عام 2008 لم يكن عادلاً هو الآخر في توزيع خيراته، فقد اكتشف الباحثون أنه بحلول 2016، أصبح أغنى 10% من الأمريكيين أكثر ثراء مما كانوا عليه في 2007، بينما تراجعت ثروات الباقين؛ أي 90% من السكان. هذا الظلم الاقتصادي الفادح هو جوهر المشكلة الحقيقية التي تعيشها أمريكا والتي تحولت إلى كابوس مخيف يهدد استقرار المجتمع، ويفجر اضطراباته بين حين وآخر.

ما يثير قلق الأمريكيين ليس فقط التباين الحاد في توزع الثروة والدخل، ولكن أيضاً تراجع فرص انتشال الطبقات الفقيرة من قاع المجتمع وقدرة أفرادها على الارتقاء إلى طبقات أعلى.

ظل هذا الحراك الاجتماعي أهم ما يميز التجربة الأمريكية. قدمت الولايات المتحدة منذ ميلادها نموذجاً فريداً لدولة الفرص المتكافئة، حيث يستطيع الفقير أن يصبح مليونيراً بفضل كفاءته، وموهبته وانفتاح المجتمع، والبيئة الصحية التي تتيح وتشجع التنافس الحر، والترقي والنجاح لكل من يستحق، ويمتلك القدرة والإرادة.

عشرات الكيانات الاقتصادية العملاقة أقامها مغامرون من الصفر، لم يكن لديهم شيء سوى أحلامهم، وبهؤلاء كتبت أمريكا قصة نجاحها، وصنعت مجدها.

الآن تتغير القصة. تقول الأرقام إن 90% ممن كانوا يولدون فقراء في الأربعينات من القرن الماضي كانوا يكسبون عند بلوغهم أكثر من آبائهم؛ أي نجحوا في تجاوز طبقتهم الاجتماعية، إلا أن هذه النسبة تراجعت في الثمانينات لتصبح 50% فقط؛ أي أن نصف من ولدوا فقراء ظلوا كذلك.

أخيراً لا يمكن الحديث عن الظلم الاقتصادي دون الإشارة إلى ارتباطه بعوامل العرق واللون والجنس. وبالطبع، فإن الأقليات المنتمية لهذه الفئات هي الأكثر معاناة. ومنذ 1960 تضاعف مستوى ثراء الأسر البيضاء 3 مرات، بينما لم يحقق السود إلا تقدماً هزيلاً. ولا يوجد بين المديرين التنفيذيين لأكبر 500 شركة سوى أربعة سود فقط، حتى عندما جاءت جائحة كورونا كانوا في طليعة الضحايا. ليس غريباً بعد ذلك أن تتعالى صرخاتهم، فعندما تعذبوا في صمت لم يلتفت إلى أنينهم أحد.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"