الأرقام ليست مجردة

04:41 صباحا
قراءة دقيقتين
يحيى زكي

تترك الأوبئة الكثير من الجروح التي تمتد إلى روح الإنسان، تتسلل إليه ببطء ومن دون وعي حتى تغير من شعوره بالآخرين، فبعد أشهر قليلة من تفشي «كورونا»، نحن نفكر في البشر كأرقام مجردة من دون أي التفات إلى خلفياتهم، حياتهم..أحلامهم..آمالهم، يتحول الإنسان بفعل مأساة الوباء إلى مجرد كائن حي عَبَر يوماً ما من هنا، وانتقل إلى الحياة الأخرى في صحبة الآلاف من البشر الذين ماتوا نتيجة للعدوى، ليس هناك من فسحة للحزن أو التوقف للتفكير في مسيرتهم، أو ما قدموه للبشرية أو تركوه للأجيال المقبلة، فالكل خائف والكل صامت، والكل ينتظر ما ستسفر عنه الأحداث، والمفجع في الموضوع تلك الراحة التي تعترينا عندما نتطلع إلى الأرقام ونجدها تشير إلى انخفاض في معدل الوفيات من الآلاف إلى المئات، مما يؤكد قرب نهاية الأزمة. صحيح أن الأمر يدعو في الظاهر إلى التفاؤل والأمل، ولكن هذه الأرقام في النهاية تعبّر عن بشر.

وهناك من يقارن بين «كورونا» و «الإنفلونزا الإسبانية»، أو يتحدث عن حوادث الطرق أو الأمراض الموسمية، ليثبت أن ضحايا «كورونا» أقل من النماذج الأخرى، هو يفعل ذلك لكي يكسبنا بعض الطمأنينة، ولكنه ينسى أن الإنسانية بما قدمته طوال تاريخها الممتد لآلاف السنين، ينبغي لها الآن أن تتجاوز التعامل مع الموتى كرقم، فحياة إنسان واحد لها حرمة وقداسة، ولا تقل أهمية وفاته عن أهمية موت المئات، وهي فكرة أشارت إليها أديان وفلسفات وأطروحات مختلفة.

يمتد التأثير السلبي للوباء عندما نضع شعورنا بضحاياه في مقارنة مع إحساسنا بقتلى الحروب، فالحرب غالباً ما تكون متعلقة ببقعة جغرافية محددة، يستطيع الإنسان البعيد عنها أن لا يتابع أخبارها، وكأنها غير موجودة بالنسبة إليه، ويمكن لنا من ناحية أخرى أن نعبر عن غضبنا تجاه تلك الحرب، ونرفض السياسات التي أدت إليها، وأن نملأ الدنيا صراخاً لنؤكد كراهيتنا لوحشيتها، ولكننا لا نستطيع أن نفعل ذلك في حالة الوباء، فهو قاتل ممتد ومتنقل لا يقتصر على بلد دون آخر، وخفي بحيث لا يمكن أن نمتعض منه بطريقة ملموسة.

لقد عودت السينما البشر على مشاهد العنف والقتل حتى امتدت إلى ألعاب الأطفال، الآن يجلس معظمنا أمام الفضائيات وعلى مواقع التواصل لنتابع أعداد الضحايا، والخوف أن نتحول رويداً رويداً إلى رؤية الآخرين كأرقام، وأن نتعامل معهم لاحقاً، وبعد انتهاء الوباء، من هذا المنطلق، ولا نهتم في المستقبل بموت عدة مئات في حرب أو عدة أفراد في حادث، هنا مكمن الخطورة، فما يميزنا كبشر هو التعاطف مع الآخرين ومحاولتنا الدائمة للشعور بمحنهم وآلامهم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"