العنصرية تجاه الماضي

04:11 صباحا
قراءة دقيقتين
يحيى زكي

التعامل مع التاريخ يحتاج إلى وقفة، لعل ذلك الشعور ينتاب القارئ وهو يطالع التقرير المطول الذي نشره موقع «بي بي سي» باللغة العربية تحت عنوان «هل تنتهي العنصرية بإزالة تماثيل الزعماء؟»، ناقش التقرير إحدى تجليات التظاهرات التي أعقبت مقتل جورج فلويد، وتمثلت في مطالبات بإزالة تماثيل قادة، رأى البعض أنهم كانوا على علاقة وثيقة بالعنصرية، مثل: ونستون تشرشل وجورج واشنطون والملك البلجيكي ليوبولد الثاني. ليس هذا فحسب، بل امتدت تلك المطالبات إلى أعمال سينمائية وأدبية تضمنت إشارات عنصرية، وقامت إحدى الشبكات التلفزيونية بإعادة بث فيلم «ذهب مع الريح» بعد تنقيحه من تلك الإشارات.

يطرح التقرير سؤالاً شائكاً، وهو: كيف يمكن التعامل مع التاريخ؟ وهنا الخوف، فإذا كانت الرغبة في إزالة هذه التماثيل فعلاً رمزياً احتجاجياً غاضباً ومفهوم الأبعاد، فإن التطرق إلى تعديل التاريخ أو إعادة كتابته أو حتى التدخل في عمل أدبي مقروء ومعروف بالحذف والتنقيح هو تشويه يقترب من التزوير وربما الجريمة المعرفية، وهو بمثابة رد فعل عنصري تجاه الماضي، صحيح أن الكثير من أحداث ذلك الماضي مشكوك فيها، ولكن في المحصلة العامة هناك شبه إجماع تجاه تلك الأحداث المفصلية، إذا قمنا بإعادة كتابتها مرة أخرى سنقع في فوضى عارمة.

لنتخيل مثلاً أن الألمان قرروا القفز في تاريخهم على المرحلة النازية، أو تعديل أحداثها حتى ينسوا جرائمها، وهم بالمناسبة لن يفعلوا أكثر مما فعله الرومان وقدماء المصريين، فسوف يدخل العالم في جدل فكري وثقافي لا نهاية له، وهناك حقب تاريخية كاملة في حضارات شامخة لا يزال الخلاف قائماً بين المؤرخين حول وقائعها الأساسية، نظراً لثقافة تزوير التاريخ التي مورست في تلك الحضارات.

إن السعي المحموم لتطهير التاريخ، لدى البعض، والتعامل معه من وجهة أخلاقية وقيمية معاصرة، يتطلب التأني، فلم يكن أسلافنا ملائكة يمشون على الأرض، لقد قال فولتير يوماً: «التاريخ مجموعة من جرائم وحماقات ومصائب»، ولا يمكن أن نقرأ التاريخ وفي أيدينا أحدث طبعة من حقوق الإنسان، وتطهير التاريخ من تجارة الرقيق، اتجاه مستحيل سيكون أصحاب البشرة السوداء أول من يعترض عليه، فعلى أكتاف أجدادهم تأسست مدن ودول. من جانب آخر كيف نطهر التاريخ من المجازر والتحيز ضد المرأة واضطهاد الآخرين ونهب ثروات الشعوب؟..إلى آخر تلك القائمة البائسة من الأفعال التي رافقت الكائن الإنساني.

الأهم من ذلك، أننا لو تخيلنا تاريخاً يخلو من مأساة العبيد، فإن العنصرية لن تنتهي في الواقع، فجميع محاولات حسم مشاكل الحاضر بالرجوع إلى الماضي لم يكن مآلها إلا الفشل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"