شرق المتوسط يغلي

04:28 صباحا
قراءة 4 دقائق
كتب: المحرر السياسي

بلغ التصعيد بين الأطراف المتنازعة شرق البحر الأبيض المتوسط حداً حرجاً، حيث اشتعلت مياه المتوسط بنيران المناورات التي تخللتها حالات احتكاك مباشر، ودعوات لضبط النفس والتهدئة، إلى جانب التهديد والوعيد، ما يعيد إلى الأذهان الأهمية الاستراتيجية لهذا القوس الجغرافي الذي شهد تاريخياً حروباً طاحنة بين الشرق والغرب، فهل يعيد التاريخ نفسه بعد أن أضيفت إلى أهميته الاستراتيجية مكامن الطاقة المكتشفة حديثاً من النفط والغاز وبكميات يسيل لها لعاب الدول المتعطشة لها.
المتابع لما يجري في شرق المتوسط لا يمكنه أن يغفل عن أطماع المتصارعين سواء من الإمبراطوريات الاستعمارية التقليدية التي لا تزال تعتبر المنطقة تحت وصايتها،أو من دول صاعدة تجهز نفسها لاستعادة دور خسرته بالقوة، وآن الأوان لاستعادته في ظل تغيرات لا تخفى في خارطة القوة على المسرح العالمي بعد ترهل الحضور الأمريكي والرهان على غيابه كلياً.

استعراض القوة

وتتبادل الأطراف في لعبة استعراض القوة اتهامات بالتعدي كل على حقوق الآخر، في بيئة بحرية يعاد رسم الحدود الدولية فيها، كلما سخنت مياه البحر،ويمتط الرصيف القاري لهذه الدولة أو تلك حسب ما تصل إليه قرون استشعارها الاستراتيجية. فقد نشرت وزارة الدفاع التركية على تويتر تغريدة مرفقة بصور لسفن حربية منها الفرقاطة التركية«تي سي جي بارباروس» والسفينة الحربية «تي سي جي بورغازادا» في تمارين تدريب عسكري مع المدمرة الأمريكية «يو إس إس وينستون إس تشرشل». وأعلنت وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي، قبل أيام،عن نشر قوات في شرق المتوسط للمشاركة في تدريبات عسكرية مع إيطاليا واليونان وقبرص. وقالت الوزيرة الفرنسية في تغريدة على تويتر: «إن البحر الأبيض المتوسط يجب ألا يكون ملعباً لطموحات البعض، إنه ملكية مشتركة، واحترام القانون الدولي يجب أن يكون القاعدة وليس الاستثناء».
وكانت فرنسا التي زار رئيسها لبنان مرتين في غضون شهر بعد انفجار مرفأ بيروت، في نوبة غرام مفاجئة ومفهومة لبلد خلفته امبراطورية أجداده المستعمرين، قد نشرت طائرتين عسكريتين وسفينتين من سلاح البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط، لإظهار دعمها لليونان في أزمتها مع تركيا. واتهمت أنقرة التي تسعى جاهدة لنفي تهمة «الرجل المريض» عن إمبراطورية استعمارية لم تكن أطماعها خافية على أحد، باريس بالقيام بدور «البلطجي» في شرق المتوسط. وقد وجهت تركيا بعد إرسال سفينة استكشاف اسمها «عروج ريس»، ترافقها سفينتان عسكريتان للتنقيب عن الغاز في منطقة متنازع عليها، تحذيراً شديد اللهجة لليونان، في وقت تصر فيه الدول الأوروبية على دعم أثينا، وتهدد بفرض عقوبات على تركيا.
وقال حامي أقصوي المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية، إن إرسال طائرات عسكرية فرنسية إلى الشطر اليوناني من قبرص يخالف المعاهدات الخاصة بالسيطرة على الجزيرة وإدارتها بعد الاستقلال عن بريطانيا في 1960.
وقال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، إنه يجب على فرنسا خاصة، التخلي عن سياساتها التي تبعث على تفاقم التوتر. وقد تطور التصعيد إلى احتكاك مباشر بين فرقاطة يونانية وسفينة تركية ألمح إليه الرئيس التركي رجب أردوغان عندما قال: «تم الرد على المعتدين بالشكل المناسب وفي حال استمرت الاستفزازات فسوف نرد فوراً».
وقال رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس أمام البرلمان: «قواتنا المسلحة تبقى في حالة تأهب،واليونان قوية في الميدان بقدر ما هي قوية في الحوار».
وفي السياق، أعلنت وزارة الدفاع اليونانية أن «قبرص واليونان وفرنسا وإيطاليا اتفقت على نشر قوة مشتركة في شرق المتوسط في إطار مبادرة التعاون الرباعية «إس كيو إيه دي».

مراوغة تركية

وتلعب تركيا على عدة أوتار في إدارة أزمتها الراهنة مع دول متعددة في الشرق والغرب. ومنذ بداية الأزمة، لجأت تركيا إلى التصعيد تارة والتهدئة تارة أخرى، فأصدرت رسائل بعضها كانت حازمة، بينما دعت في أخرى للحوار. وأكد وزير الخارجية التركي أوغلو أن بلاده «لا ترغب في التصعيد»، بل تدعم عقد «حوار هادئ»، لكنه حمّل أثينا مسؤولية التوتر ودعاها إلى «التصرّف بمنطق سليم». وقد استجابت أنقرة لوساطة تقوم بها ألمانيا ووافقت على وقف التنقيب بدءاً من 23 أغسطس /آب الماضي،على أن تجري مفاوضات هادئة بعد ذلك. لكنها استأنفت التنقيب بعد ثلاثة أيام بدعوى عدم وفاء أثينا بوعودها.
وتدين أثينا ما تعتبره انتهاكاً لمياهها الإقليمية بعد نشر سفينة التنقيب التركية جنوب جزيرة كاستيلوريزو اليونانية. أما تركيا التي تتهم اليونان بتبني«موقف متطرف»، فترفض الإقرار بأن هذه الجزيرة الصغيرة التي تبعد كيلومترين عن السواحل التركية،وأكثر من 500 كلم عن السواحل اليونانية، تحد من هامش تحركها.
وفي إطار تعزيز مواقعها شرق المتوسط، وقعت تركيا العام الماضي اتفاق ترسيم حدود بحرية مثيراً للجدل،مع حكومة الوفاق الوطني الليبية المعترف بها من الأمم المتحدة. وقد رفضت معظم دول المنطقة الاتفاق المذكور.

تحالفات بنكهة الأطماع

وتتخذ التحالفات في المنطقة أشكالاً جديدة لا تنطبق عليها معادلات الحرب الباردة ولا حسابات النصر والهزيمة في نزاع مفتوح اختلطت فيه كل الأوراق،وأكثر ما يميزه استراتيجيات«التربص للتربح» التي جربتها بعض دول المنطقة ذات الدور المحدود تاريخياً في ترجيح كفة الصراع،أو تلك التي تعبث أصابعها في تزكيته خفية كما هي حال إسرائيل..

ماذا بعد؟

تصاعدت نبرة حزب أردوغان بعد اكتشاف الغاز في البحر الأسود لاستغلال الحدث في المواجهة السياسية الداخلية مع القوميين الأتراك، وسوف يكثف مساعيه لحماية «الوطن الأزرق» الموعود. وإذا كان الأتراك، الذين يملكون أكبر قوة بحرية وعسكرية في المنطقة، مصرين على متابعة مطالباتهم بثروات شرق البحر الأبيض المتوسط ​​، فإن فرص حدوث مناوشات في البحر ستزداد بالتأكيد. ويعمل أردوغان على بناء ائتلاف قوي في الداخل من خلال تشديد خطابه القتالي وادعاءاته بالحقوق التركية غير القابلة للتصرف في هذه المياه.
وربما يهدف إلى إجبار اليونان للتفاوض معه بشأن تقاسم هذه الموارد، وإن كان ذلك مستبعداً في ظل الدعم الذي تحظى به الأخيرة من دول العالم ناهيك عن أن القانون الدولي في صالحها. لكن هذه اللعبة تنطوي على مخاطر تحول الخطاب التصعيدي إلى موقف سياسي يصعب على أردوغان التراجع عنه، وبالتالي يؤدي إلى انفجار الوضع عسكرياً وهو الاحتمال الذي بات شبه مؤكد ما لم تنجح الدبلوماسية في نزع فتيل الحرب في آخر لحظة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"