القرية الكونية في الأسر

01:58 صباحا
قراءة 7 دقائق
** القاهرة: مدحت صفوت

لا يمكن الجزم بأن نتائج الأوبئة على نحو عام تتلخص في مآسي المرض والموت، فالتهديدات التي يشهدها العالم واسعة النطاق، وحالة اللايقين والقلق والارتباك التي سيطرت على أغلب سكان الكرة الأرضية، قد تُنتج رؤى وتصورات جديدة، أبرزها أن يصبح الناس أقل ثقة في أي جديد، أو قد يصبحون أقل رغبة في التعامل مع أي شيء يبدو غريباً.
منذ الأيام الأولى لإعلان منظمة الصحة العالمية انتشار فيروس كورونا «جائحة»، ثمة أسئلة فلسفية تشغل بال الكتاب والمنظرين حول شكل العالم عقب انتهاء الوباء العالمي، وضمن هذه الأسئلة ما يتعلق بالموقف من العولمة، وهل انتشار فيروس على هذا النحو يغذي ردود فعل مادي حيال تصورات العالم كقرية الصغيرة؟ إلى أن يطرح الكاتب الأبرز في Bloomberg جيمس جيبني السؤال واضحاً: «هل يُنهي الفيروس التاجي العولمة كما نعرفها؟».
في رأينا الأمر ليس بهذه السهولة، وما جرى طرحه من محاولات للإجابة المبكرة مجرد رؤى مبتورة ومختصرة، قد لا ترى في العولمة سوى شركات عابرة للقارات وسفن وحاويات ضخمة وشاشات من الأرقام الاقتصادية والأسهم والمؤشرات الدالة على حركة التجارة الدولية ليس أكثر، ومتغافلة - نقصد التصورات - عما يحويه مفهوم العولمة من شبكات وروابط سياسية وثقافية واجتماعية توسعت خلال العقود الماضية.

أثر الفراشة

مع نمو حجم التجارة والتمويل والإنترنت والسفر وتفاعل الشبكات الدولية أصبحت الأوضاع الإنسانية اقتصادية واجتماعية وثقافية أكثر تعقيداً وتركيباً، وهو ما جعلها الأكثر عرضة لنظرية «أثر الفراشة» التي ابتكرها العالم الشهير إدوارد لورينز، مؤسس ما يعرف بنظرية الفوضى، والقائل بأن فراشة ترفرف جناحيها فوق البرازيل يمكن أن تتسبب في إعصار في تكساس، وهو الأمر الذي يبدو جلياً مع انتشار وباء كورونا.
لكن هل حقاً ستدفع الجائحة الحالية نحو التقوقع الذاتي والانغلاق؟ الإجابة التي قد تتسم بالدقة تتطلب العودة إلى الوراء والتعقب التاريخي للظواهر المتشابهة، فانتشار العدوى لا يتوقف على الأمراض الجسمانية فحسب، فكما تنتشر الأوبئة تشهد الأسواق العالمية حالة من العدوى بعد توقف بورصات العالم وإغلاقها، وانتفاء السوق العالمية، هنا نتذكر الأزمة المالية في عام 2007 كمثال واضح على كيفية انتشار العدوى من الولايات المتحدة إلى الأسواق العالمية بين عشية وضحاها، بجانب شيوع فيروسات الشبكة العنكبوتية والهجمات السيبرانية الشهيرة.
وأدى النمو السريع في الأرباح والدخول خلال العقود التي سبقت الأزمة المالية، والطبيعة قصيرة الأجل للأزمات الآسيوية والأزمات الأخرى، إلى تعزيز الثقة الخطيرة في أن خطر الكساد قد هزم نهائياً، وكانت النتيجة ظهور مخاطر اقتصادية دولية عجّلت بالانهيار في 2007، وهو ما دفع البعض إلى تشبيه الحادث بكساد 1929 أو ما يعرف بالكساد الكبير، وبالطبع تجلت نظرية أثر الفراشة مرة جديدة.
واستمراراً لتتبع أثر الفراشة، خذ بعين الاعتبار ما حدث خلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر، عندما فتحت الإمبريالية مسارات جديدة للتجارة والاستثمار، إلى جانب عقد مؤتمرات دولية جديدة في تخصصات مثل الرياضيات والإحصاء والكيمياء والفلسفة، وتعاونت سلطات الصحة العامة الوطنية للتعامل مع أمراض مثل الحمى الصفراء، التي حفزتها زيادة التجارة أو الأوبئة التي أصابت المدن الساحلية بشكل دوري خلال العقدين قبل الحرب العالمية الأولى.
صحيح أن اندلاع الحرب وما نتج عنها من مذابح حطمت السوق العالمية الناشئة، لكن حتى خلال هذه الفترة، لاحظت المؤرخة إميلي روزنبيرج تسارع توسيع الشبكات العابرة للقومية أو القُطرية في العلوم والصحة والترفيه.
وعلى الرغم من النزعة القومية الأمريكية وثقافات كراهية الأجانب اللتين ازدهرتا بالولايات المتحدة في عشرينات القرن الماضي، فإن سنوات ما بين الحربين العالميتين شهدت أيضاً إنشاء منظمات غير حكومية ثرية مثل مؤسسة كارنيجي 1922 ومؤسسة فورد 1936 وغيرهما من الكيانات التي عنيت بتوسيع التعاون الإنساني، وتبادل الثقافات والخبرات المعرفية العابرة للقوميات والإثنيات.

ركائز

ترتكز العولمة اقتصادياً إلى ما هو أبعد من نمو حركة التجارة وتتعدى إلى ثلاث ركائز أساسية، هي: الإصلاحات المؤسسية والقانونية والسياسية، وأنظمة النقل الضخمة تطوير تقنيات اتصالات المعلومات، وتحرير التجارة الحرة وتنقل العمالة، فضلاً عن ذلك، جعل تطور الاقتصاد العالمي الخدمات أكثر أهمية نسبياً من إنتاج السلع. وعلى مستوى الأهمية ذاتها، الاتصال واسع النطاق والطفرة المتتالية للمعلومات الرقمية التي أدت إلى دفع تدفق الأفكار والروابط، سواء بين الأفراد أو المؤسسات أو الدول. فهل يمكن عزل كل ذلك أو تجاهل تأثير حركة المعلومات في الغرب على دول المشرق مثلاً؟
لسنا مبشرين بالعولمة، التي هي آلية لإفراز السعادة والبؤس، الأوبئة واللقاحات، وسياق لتنظيم حياة البشرية جمعاء ومظلة قد تغطي نشاطاً إجرامياً، لكن المؤكد أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش منعزلاً مع جماعته فقط، ودائماً في حاجة إلى تدشين صلات أوثق، وتقوية شبكات التعاون، أياً كانت النتائج المترتبة، فلا مفر من الانفتاح ليحيا الجميع.

الدواء عابر الحدود

مع كل الإجراءات التي اتخذتها عشرات الدول من إغلاق حدودها وتعليق حركات الطيران وعدم السماح بالدخول أو الخروج منها، الصورة التي تشي بنوع من الاكتفاء الذاتي كإجراء احترازاي ضد تفشي جائحة كوفيد 19، ثمة شعور كوني يتنامى على التوازي لدى الأفراد، يمكن الإشارة إليه بعبارة «العولمة تجلب الدواء».
في ظل الحجر الصحي الذي فرضته الدول والشعوب على نفسها، تحلم البشرية بوصول أي من أبنائها إلى لقاح أو مصل للفيروس التاجي، وقد يسمح بذلك التعاون الأكاديمي أو البحثي بين جامعات ومختبرات العالم أجمع، ومن دون أن ننسى أن باحثي الجامعات وطواقم المراكز البحثية الكبرى غالباً ما ينتمون إلى جنسيات متعددة ودول مختلفة، وهو الأمر الذي يعني أن العولمة، كما كانت سبباً في الانتشار في نظر البعض، قد تكون سبيلاً لإنهاء الأزمة الراهنة.
كما يبدو أن العولمة في اختبار، فإن البشرية برمتها تدخل الاختبار في توقيت واحد، وهو ما دعا الأمم المتحدة إلى إطلاق بيان تحت عنوان «أزمة إنسانية تستدعي التضامن»، مؤكداً أن عالمنا يواجه اليوم عدواً مشتركاً، ونحن في حرب ضروس مع فيروس، ولا سبيل للتصدي له إلا بالتكاتف والتكافل والتكامل والتضامن، وهو ما يعني وجوب المزيد من التعاون بين البشر على اختلاف جنسياتهم وألوانهم وأعراقهم، فاللحظة تتطلب إجراءات سياسية منسقة وحاسمة ومبتكرة، خاصة في ظل توقعات بضرر الدول الأكثر فقراً.
وليس ببعيد عن التضامن ولا سياقات العولمة والثقافة الكونية بروتوكولات العلاج وقوائم الأدوية المستخدمة في مستشفيات الحجر الصحي في العالم للمصابين، وبخاصة بعدما أعلنت منظمة الصحة العالمية، عن تجربة عالمية كبيرة تسمى SOLIDARITY
، لمعرفة الأدوية التي بإمكانها المساهمة في العلاج، في جهد غير مسبوق، وعمل منسق شامل لجمع بيانات علمية قوية بسرعة خلال أقصر وقت.
كما رصد المنتدى الاقتصادي العالمي أبرز أشكال التضامن الإنساني خلال انتشار كوفيد 19، وما أطلق عليه «مواجهة الوباء بجائحة التضامن»، مؤكداً أنه في الوقت الذي يستمر الفيروس في الانتشار يظل الناس مصرين على إبراز أفضل ما فيهم في جميع أنحاء العالم، وخاصة دور المتطوعين لمساعدة المسنين وضعفاء المناعة وأصحاب الأمراض المزمنة، بوصفهم الأكثر عرضة للإصابة، ولم يغفل المنتدى غناء الناس لبعضهم البعض للحفاظ على الروح المعنوية مرتفعة، في ظل الالتزام بالابتعاد الاجتماعي وعزل الذات.


الخرافة تواجه الكونية


في ظل التضامن الإنساني، وتقديم بعض الدول مساعدات للدول الأكثر تضرراً، ثمة تصورات عن شيوع القوميات وتراجع التصورات الكونية والمعولمة، فضلاً عن إعادة تدوير نظريات المؤامرة، وليس مستغرباً الدور الذي يلعبه انتشار كوفيد 19 من تغذية النزعات القومية في الأوساط الأمريكية التي يعتقد كثير منها أن الأصول الصينية للمرض ستعيد تأكيد الاعتقاد بأن الصين تشكل خطراً على العالم، ولا يمكن الوثوق بها أو بتصرفها بمسؤولية. في المقابل، ومن المرجح أن يرى العديد من الصينيين أن بعض الإجراءات الأمريكية لمكافحة الفيروس لها دوافع عنصرية، وتهدف إلى منع صعود بلادهم.
في عالم مليء بالمعلومات المضللة، يمكن للوباء أو الجائحة أن تجلب المزيد من الخرافات وأسطورة سرعة الانتشار، وكلما زاد عدد الضحايا، مصابين أو أمواتاً، تزيد فرص وقوع الإنسانية في براثن التفسير غير العقلاني، وكلما كان أصل المرض أقل وضوحاً، زاد احتمال عزوه إلى بعض التأثيرات الخبيثة والقوى الشريرة.
في أوروبا الحديثة، أنتجت أوبئة الطاعون نظريات مؤامرة واسعة، ومنذ القرن السابع عشر جرى تداول قصص عن شخصيات مُقنّعة شريرة تتحرك فوق أسطح المنازل بمواد معدنية لتنشر الوباء، إضافة إلى الموقف من الغرباء والتجار الأجانب والفقراء والمهمشين وأرباب السوابق والجناة.
وفي رواية الكاتب والشاعر الإيطالي أليساندرو فرانشيسكو مانزوني «المخطوبون» 1827، تصل المؤامرة إلى ذروتها أثناء تفشي الطاعون في ميلانو في ثلاثينات القرن السادس عشر، حين اعتبر الطليان الوباء آفة جلبها الأجانب، وهو ما عزز من الشعور القومي الإيطالي. ومن جهته، أظهر المؤرخ الهولندي يوهان هويزنجا أن الفترة التي أعقبت الموت الأسود في أوروبا تنتمي فكرياً إلى العصور الوسطى، فالأمر لم ينتهِ عند حد خسائر في الأرواح وآثار اقتصادية وخيمة، إنما شهدت بلدان القارة العجوز ازدهاراً في حركات الزهد والتصوف، والميل إلى الاتجاهات اللاعقلانية، وكراهية الأجانب التي أدت في النهاية إلى إنهاء ما يسميه هويزنجا «الثقافة الكونية».


مسارات


تاريخياً، وقبل اختراع العولمة الحديثة لم تنجح البشرية أيضاً في منع انتشار وباء ما على نطاق عالمي، منذ القرن السادس الميلادي أي منذ «طاعون جستنيان» المنسوب إلى عهد الإمبراطور البيزنطي «جستنيان» في أربعينات القرن السادس، ويقدر أنه حصد أرواح نحو 25 مليوناً.
وفي القرن السابع عشر حتى التاسع عشر انتشرت الحمى الصفراء التي تتوطن في الأصل إفريقيا وأمريكا الجنوبية، ثمّ نُقِلت إلى أمريكا الشمالية وأوروبا، وأثرت سلباً في اقتصادات البلدان، وعطَّلت مسيرة التنمية وأودت بحياة الناس في كثير من الأوقات.
لكنّ إيطاليا صاحبة الرقم الأعلى في قائمة ضحايا فيروس كورونا، تحتفظ في ذاكرتها بتأثيرات ليست طيبة تخص طريق الحرير، الطريق التجاري الذي يربط بين قارات آسيا وإفريقيا وأوروبا، فمثلما كانت الصين منشأ الفيروس التاجي، وانتشر من مقاطعة ووهان إلى أغلب دول العالم، جاء الموت الأسود إلى إيطاليا عام 1347 من خلال الطريق ذاته.
وفي القرن الرابع عشر، كانت الجرذان محملة بالبراغيث السوداء قادمة من آسيا الوسطى، مستغلة قوافل برية من التوابل والحرير من الصين والهند، ووصلت البضائع إلى شبه جزيرة القرم، واستقرت القوارب في ميناء جنوة شمالي إيطاليا، ومع سقوط الضحايا أدرك الطليان أن البضائع نقلت إليهم الطاعون الدبلي أو الطاعون الدبيلي الذي أودى بنصف السكان تقريباً حينذاك.
وفي ظل الحرب العالمية الأولى التي انتهت في 1918، يبدأ فيروس الإنفلونزا الإسبانية في الانتشار، وثمة كتابات تاريخية تشير إلى دور ثكنات الجنود المكتظة وتحركات المشاة الهائلة في التسريع من وتيرة انتشار الوباء، وهو ما يجعلنا أمام دور الحرب لا دور التعاون التجاري في نشر الأوبئة والأمراض، ومثلما قتلت الحرب الأولى نحو 16 مليون عسكري ومدني في العالم، أودت الإنفلونزا بما يتراوح بين 50 مليوناً و100 مليون شخص.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"