«ديفيد كوبر فيلد»..الروائي من الداخل

00:31 صباحا
قراءة 5 دقائق
القاهرة: «الخليج»

تعتبر رواية «ديفيد كوبر فيلد» في جانب كبير منها قائمة على سيرة تشارلز ديكنز الذاتية، وإن كان ديكنز بالطبع لم يهدف إلى ذلك، وإنما كان مراده أن يكتب رواية، غير أنه استمد الكثير من مادة هذه الرواية من حياته الخاصة، وفي الحدود التي تخدم غرضه كروائي، أما ما لا يوافق من حياته الخاصة ذلك الغرض فهو يتخلى عنه ليصوغ ما يوافقه بخياله الخصب.
الرواية مكتوبة على لسان بطلها «ديفيد كوبر فيلد» وهي طريقة كثيرًا ما لجأ إليها الروائيون، ولها مزاياها وعيوبها، وأول مزية لها بلا شك أنها تجبر المؤلف على إبقاء تسلسل الأحداث متصلا، لأن الراوية لا يستطيع أن يروي لك إلا ما شهده بعينه أو سمعه بأذنيه أو فعله بنفسه، والمزية الثانية لهذه الطريقة أنها تحشد إلى جانب الراوي عواطف القراء، وتركز عليه اهتمامهم من بداية الرواية إلى ختامها.

هناك عيب في هذه الطريقة وهو أن الراوية البطل لا بد أن يبدو باهت المعالم، بالقياس إلى الشخصيات الأخرى التي يروي وقائعه معها، والسبب البديهي لذلك النقص أن الراوية يرى نفسه من الداخل، فلا يصور ملامحه الخارجية، بل يصور ما يراه بعينيه، وما يراه ليس صورة نفسه بل صورة الآخرين، فهو إذ يتحدث عن نفسه يذكر مخاوفه ووساوسه، وإذ يتحدث عن سواه يصفه بلا تحرج.
«ديفيد كوبر فيلد» فتى طاهر القلب إلى حد السذاجة، يتعرض للسلب والنهب والغش والغفلة من كل من يلقاه في طريقه، لكن ذلك لا يتفق مع بدايته، ففي العاشرة من عمره عمل في مصنع حقير وخالط العمال وذوي الحيلة، وهذا يشبه تماماً ما حدث مع ديكنز في طفولته، ومن العجب أن يظل ديفيد على هذه البراءة وقلة الحيلة، فهو لا يتعلم من دروس الحياة القاسية شيئاً يقيه أفاعيل أهل السوء، فيظل إنساناً عديم الخبرة، عاجزاً عاطلاً عن الكفاءة في أمور العمل والعواطف، وأعجب من ذلك أن ينتهي هذا الإنسان إلى التفوق في تأليف الروايات.
وتلعب المصادفات دورا كبيراً في الرواية، فديكنز يلجأ إلى المصادفة تلو المصادفة، كلما وجد ذلك مجدياً في إبراز معالم روايته، وتهيئة الجو لألوان من اللقاء الدرامي المثير بين أبطالها، وهي خطة- كما يقول نظمي لوقا في مقاله عن الرواية- تتعارض مع الاتجاه الحديث في القصص، لكننا لو خيرنا بين مصادفات «ديفيد كوبر فيلد»، وما ترتب عليها من المشاهد الرائعة البارعة، وبين إلغاء تلك المصادفات بكل ما ترتب عليها من مشاهد، كما ترددنا في التمسك بتلك المصادفات الخصبة.
ولد «تشارلز جون ديكنز» سنة 1812، وكان ترتيبه الثاني بين إخوته الثمانية، وكان أبوه موظفاً في خزانة البحرية الإنجليزية، وكانت أحوال الأسرة مضطربة أشد الاضطراب، وذلك لأن أباه كان رجلاً بوهيمي النزعة، غريب الأطوار، عجز عجزاً تاماً عن تدبير أحواله المالية في حدود موارده الفعلية، وهذا الأب نجح الابن تشارلز ديكنز في أن يجعل منه نموذجاً حياً لأعظم شخوص روايته «ديفيد كوبر فيلد» وهو «مكستر ميكاوبر» وهو شخصية لها مكانتها في الرواية.
بعد عامين من ولادة تشارلز نقل الأب للعمل في لندن، وكانت لدى هذا الأب مكتبة صغيرة، معظمها روايات من بينها «توم جونز- جيل بلاس- دون كيشوت» وقد راح الطفل الصغير يقرأ هذه الكتب ويعيد قراءتها، وقد تأثرت أعماله فيما بعد بهذه الكتب، وفي سنة 1822، صار تشارلز في عامه الحادي عشر، وكانت أمور الأب المالية قد وصلت إلى الضنك، حتى أنه لم يستطع أن يلحق ابنه بأي مدرسة.
وكان تشارلز يتسلل بين الحين والآخر، ليجوب الشوارع، وما يحيط بها من أحياء فقيرة، تتخللها الخرائب والمصارف والحفر، وامتد تجواله فيما بعد إلى «حي سوهر» المشهور بسكانه من المنبوذين من المجتمع والخارجين على القانون، واشتدت ضائقة الأسرة، وكان تشارلز ديكنز هو الذي يحمل إلى حوانيت المرابين قطع الأثاث بالبيت.
والتحق ديكنز بالعمل في مصنع لتعبئة طلاء الأحذية في الزجاجات، وكم آلمه أن يجد والديه يغادران المنزل وهو في الثانية عشرة، كي يعيش نهباً للإحساس بالضياع والنبذ في ذلك المصنع الحقير، وبعد قليل سيق الأب إلى السجن بسبب تراكم ديونه، وخلال تلك الفترة نعم تشارلز ديكنز بالحرية، فكان يقضي أمسياته متجولاً في شوارع لندن وأزقتها، لا سيما الشواطئ التي يكثر فيها البحارة.
وعاد ديكنز إلى المدرسة، بعد خروج الأب من السجن، وفي سن الخامسة عشرة ألحق بالعمل ساعياً في مكتب أحد المحامين، وفي أوقات فراغه تعلم الاختزال، وهذا ما فتح له أبواب العمل في الصحافة مندوباً برلمانياً، وهو دون العشرين، وفي تلك الأثناء أغرم بفتاة، كان أبوها مدير بنك، وبعد عامين من الأحلام تحطم قلبه، وهذه الفتاة هي التي صورها في روايته «ديفيد كوبر فيلد» باسم دورا، وقال فيما بعد إن معظم الناس لا يمكن أن يتصوروا مبلغ هيامه الشديد بها، ولم يلتقيا إلا بعد ذلك بسنوات طوال، وقد صار ديكنز من أعلام زمانه، بينما غدت تلك الفتاة زوجة بدينة غبية عاطلة من كل سحر، فاستخدمها نموذجاً في روايته «الصغيرة دوريت».
بعد عام تقريباً من العمل في الصحافة شرع ديكنز يكتب سلسلة من الصور القلمية للحياة في لندن، نشرتها له بعض المجلات الأدبية، إلى أن كتب روايته التي دفعت به إلى الأضواء وهي رواية «أوراق مستر بيكويك» ثم أصدر عام 1838 روايته «أوليفر تويست» التي حفلت بالظلم الاجتماعي ورصد أحوال الملاجئ في بريطانيا، وفيما بعد سيرحل إلى أمريكا وكندا للقيام بجولة كبرى لم تسفر عن شيء أو مودة بينه وبين الأمريكيين، الذين كانوا ينشرون كتبه على نطاق واسع، من غير أن يفكروا في أداء شيء من الحقوق المالية إلى المؤلف، وبعد عودته نشر قصة «مارتن تشازلويت» سنة 1843، وهي قصة جريمة قتل تفيض بالسخرية والتعقد، وتفصح عما تركته أمريكا في نفسه من زراية.
ثم ظهرت رواية «ديفيد كوبر فيلد» سنة 1850 وبعدها بثلاثة أعوام نشر روايته «البيت الكئيب» ثم «أوقات عصيبة» التي تدور حول مشكلة التفكير الثوري في المجتمع الإنجليزي في عصر نشأة الصناعة الكبرى، واحتدام المشكلات بين نقابات العمال وأصحاب المصانع، إلى أن ظهرت سنة 1859 «قصة مدينتين» وهي رواية تاريخية لم تزل من أهم النصوص الأدبية التي تقرر على المدارس الثانوية والعليا وهي ختام مرحلة نضجه.
واضطربت حياته الزوجية، فتزوج من ممثلة صغيرة سنة 1858، ومات قبل أن ينهي آخر أعماله «لغز ادرين درود» وذلك في 9 يونيو/حزيران سنة 1870، وقد دفن في وستمنستر مع عظماء إنجلترا، وأعلن العالم أجمع الحداد عليه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"