كتابة الصمت

03:02 صباحا
قراءة 8 دقائق

** القاهرة: «الخليج»

في الرواية الصينية «مساج» كانت الطفلة الكفيفة تعزف للحضور مقطوعة موسيقية صعبة لباخ، فشلت في عزفها بدقة، لكنها فوجئت بمبالغة الحضور في التصفيق لها، والثناء عليها. وقالت: «علمت بعد ذلك أن الناس ينظرون إلى الكفيف على أنه أتى إلى العالم كي يثير الشفقة فقط، وهذا ما جعلني أترك العزف بعد ذلك».
الطفلة في الرواية الصينية لم تكن تريد شفقة من أحد، لأن مثل هذه المشاعر تعمق لديها الأزمة الخاصة بفقدان البصر، في حين أن د. طه حسين في أوائل القرن الماضي، ربما كان يبحث عن نوع من الشفقة في أصوات ممتحنيه، وهو طفل، حين سعى للالتحاق بالأزهر، فقد غيرت مساره ومشاعره تماماً جملة الممتحن القاسي: «اقرأ سورة الكهف يا أعمى»، وإن أدرك في ما بعد أنه كان في حاجة إلى أشياء أخرى، حتى يستطيع تجاوز محنته.
رواية «مساج» للكاتب الصيني «بي في يو» إحدى الروايات التي نالت إعجاب الكثيرين، وتحولت إلى فيلم سينمائي نال عدة جوائز، وتدور أحداثها حول مجموعة من المكفوفين، وتكشف الرواية عن الحياة الواقعية التي يعيشها الكفيف وسط عالم رحب، لكنه يشعر بأنه عالم ضيق، عالم حالك السواد، وتعكس الرواية نظرة المجتمع الصيني إلى الكفيف، وتضع يدها على نقطة حساسة في حياة الكفيف، وهي تتعلق بضرورة الاتكاء على عالمه الداخلي، في كسب قوته، دون مساعدة من أحد.


بطريقة برايل


أما د. طه حسين، فعندما طبعت «الأيام» بطريقة برايل قال في المقدمة: «ليس أحب إلى نفسي، ولا أحسن موقعاً في قلبي، من أن يقدم هذا الكتاب إلى زملائي وأصدقائي في المحنة، ولا أرى فيها قسوة أو شيئاً يشبه القسوة، وإنما هي آفة من الآفات الكثيرة، التي تعرض لبعض الناس في حياتهم، فيؤثر فيها تأثيراً قوياً أو ضعيفاً، والذين يقرؤون هذا الحديث من المكفوفين، سيرون فيه حياة صديق لهم في أيام الصبا، تأثر بمحنتهم قليلاً، حين عرفها، وهو لم يعرفها إلا حين لاحظ ما بينه وبين إخوته من فرق في تصور الأشياء وممارستها».
نشرت الطبعة الخاصة بالمكفوفين سنة 1991، وكتب طه حسين في المقدمة ظروف كتابة «الأيام» بضمير الغائب: «وقد تأثر بهذه المحنة تأثراً عميقاً قاسياً، لا لشيء إلا لأنه أحس من أهله رحمة له وإشفاقاً عليه، وأحس من بعض إخوته سخرية منه وازدراء له، ولو عرف أهله كيف يرعونه من دون أن يظهروا له رحمة أو إشفاقاً، ولو قد كان الناس من رقي الحضارة وفهم الأشياء على حقائقها، بحيث لا يسخرون من الذين تعتريهم بعض الآفات، لا يرثون لهم ولا يظهرون لهم معاملة خاصة يتكلفونها، ولو قد كان من هذا كله، لعرف ذلك الصبي وأمثاله محنتهم في رفق، واستقامت حياتهم بريئة من التعقيد، كما تستقيم لكثير غيرهم من الناس».
هذه المقدمة أملاها طه حسين في ال 15 من ديسمبر 1954 على من نشرها بطريقة برايل الخاصة بالمكفوفين، أما «برايل» نفسه، فقد ولد عام ١٨٠٩ بالقرب من باريس، وكان أبوه يصنع أدوات الخيل، وفي أحد الأيام حاول الابن أن يقلد والده، فأخذ السكين، ليقطع به الجلد، فسقط منه وأصاب إحدى عينيه، وبعدها قضت العدوى على الأخرى، وفي العاشرة من عمره حصل على منحة تعليمية، وكانت الكتب التي تستعمل في المدرسة، تطبع على ورق سميك بأحرف عادية، تضغط على الورق من جهة، لتبرز من الجهة المقابلة، يلمسها الكفيف بيديه، ولم يجد «برايل» في استخدامها ما يشبع رغبته، فأخذ يفكر في طريقة تجعله يقرأ بسهولة.
سمع «برايل» أن ضابطاً فرنسياً ابتكر طريقة جديدة، يستطيع بها الجنود تلقي الأوامر في الظلام، وذلك بأن يبرز على ورق سميك أشكالاً من النقط أقصاها ١٢ نقطة، يعبر كل منها عن أمر ما، وكانت هذه شرارة، إذ عكف «برايل» على الأمر، ليصل في عام ١٨٢٤ إلى الاكتفاء بست نقاط بدلاً من واحدة، وألف حروف الهجاء والعلامات الرياضية والموسيقية وغيرها.


لغة الإشارات


كانت رواية «صرخة النورس» أول رواية مترجمة للمكفوفين، تصدر في مصر، وتتناول السيرة الذاتية ل «إيمانويل لابوري»، وهي فتاة فرنسية صماء، استطاعت أن تتخطى محنة العزلة والإعاقة بالتصميم على النجاح، وتشير المترجمة دينا مندور إلى أن المؤلفة نقلت تجربتها في الرواية للمطالبة بحقوق الصم، حتى إنها خرجت في تظاهرات في فرنسا، للمطالبة باعتماد لغة الإشارات، حتى اعترف القانون الفرنسي بهذه اللغة.
مع بداية دراستها في مدرسة للصم، تفاهمت المؤلفة هي وأصدقاؤها بلغة الإشارات، التي كانت محرمة في فرنسا، حيث كان يعتبرها الفرنسيون لغة غير مهذبة، لأنها لغة أصابع، بدأت «لابوري» التمثيل، وهي طفلة، وشاركت في مسرحية أطفال الصمت، ونالت جائزة موليير للمسرح، وهي في سن المراهقة، وكانت أول صماء تحصل على هذه الجائزة، وأصبحت سفيرة لغة الإشارات في فرنسا، وكانت تشارك في المحافل الدولية، للتعبير عن مطالب الصم والبكم، وعن قدرة الإنسان على التحدي.
في إحدى الندوات التي خصصت لمناقشة الرواية قارن البعض بين ذلك العمل وبين «الأيام» لطه حسين، حيث رأت د. منى طلبة - الأستاذ بجامعة عين شمس - أن هذا الكتاب يعد فريداً من نوعه، لأنه يكتب سيرة ذاتية لامرأة صماء، وهناك تشابهات بينه وبين «الأيام» تتمثل في الكتابة عن الطفولة، لكن طه حسين ارتفع بذاته، حيث استخدم ضمير الغائب في الحكاية، لأنه يقدم ذلك إلى جيل قادم، بغرض أن تكون سيرته مشروعاً نهضوياً، أما مؤلفة هذه الرواية، فهي لم تكتب هذا النص وحدها، حيث ساعدتها شقيقتها في الكتابة.
القضايا التي تتضمنها رواية «صرخة النورس» تختلف عن القضايا التي ركز عليها طه حسين، وتلك القضايا هي هوية الأبكم ورفض الإعاقة، وطرح القضية على مستوى سياسي واجتماعي، ولفت الانتباه إلى أن هناك وسائل أخرى للتواصل في العلاقة بالآخر، وهي تعرفها لأنها صماء، فقد رفضت أن ينظر لإعاقتها على أنها قصور، لا على أساس أنها قوة، مؤكدة أن الكلام ليس أساس التواصل.


عيد الحمقى


تعد رواية «أحدب نوتردام» لفيكتور هوجو أول رواية تتناول أحد «أصحاب الهمم»، وتدور أحداثها عام 1482 في الكنيسة الشهيرة، والمنطقة المحيطة بها في باريس، حيث «كازيمودو» الأحدب، الذي يعمل في قرع أجراس الكنيسة العملاقة، حتى أصابته أصواتها بالصمم، فصارت الكنيسة عالمه الوحيد، لا يربطه بالعالم خارجها سوى رئيس القساوسة، الذي كان يصحبه إلى الخارج في بعض الأحيان، وكان الجميع يتجنبونه، أو يسخرون منه.
في الاحتفال ب«عيد الحمقى» شاهد الأحدب «أزميرالدا» الغجرية الحسناء، التي سحرت قلوب الجميع، وأولهم رئيس القساوسة نفسه، ليأمر الأحدب بخطفها، لكنه يفشل، ويصدر الحكم بجلده في الساحة العامة بسبب جريمته، لتُشاهد الحسناء الأحدب المسكين، وهو يعاني من الآلام والعطش، فتعطف عليه وتقوم بإعطائه جرعة ماء، ما فعلته «أزميرالدا» كان تحولاً كبيراً في حياة الأحدب، فقد كانت أول من يعطف عليه في حياته، وهو ما جعله يقع في حبها.


هموم شخصية


في سنة 1967 كتب الروائي الياباني «كينزا بورو» الحاصل على جائزة نوبل عام 1994 رواية «الصرخة الصامتة»، وهي تمثل تياراً بدأ بروايته «هموم شخصية»، وجسد من خلاله علاقته بابنه المعاق ذهنياً، وهناك رواية «علينا أن نتجاور جنوننا»، ويجسد فيها معاناته، ومحاسبته لذاته على الأخطاء، التي ارتكبها في حق ابنه، وحين سئل عن ظهور ابنه كثيراً في رواياته، قال: أصبحت الكتابة عنه إحدى ركائز تعبيري الأدبي، إنني أكتب عنه، لأبين كيف يدرك شخص معاق ذاته ومدى صعوبة ذلك، حين كان صغيراً أخذ يعبر عن نفسه - عن إنسانيته - عبر الموسيقى، وعند مرحلة معينة كان بوسعه أن يعبر عن مفاهيم مثل الحزن من خلال الموسيقى، لقد دخل في عملية إدراك للذات، واستمر في المضي على هذا الطريق.
وفي عام 1999 فاز الروائي الألماني جونتر جراس بجائزة نوبل للآداب، وكانت روايته «الطبل الصفيح» هي الجزء الأول ضمن ثلاثية، تجري أحداثها قبيل وخلال الحكم النازي في ولاية مستقلة على الحدود الألمانية البولونية، وتروي الرواية قصة طفل يدعى أوسكار، يقيم في مصحة للأمراض العقلية، عند بلوغه الثالثة من عمره، تجمد نموه الجسدي، وبدأ مشواره في الحياة على شكل قزم «بغية التحرر من أساليب التفريق التي تقوم بها التعاليم كبيرها وصغيرها»، قرار أوسكار هنا ذو أبعاد دينية وفلسفية.
تعبر الإعاقة عن رغبة أوسكار في مقاومة كل ما هو خارجي، باعتبار أن البالغين الذين لا يعانون ظاهرياً من إعاقة هم المعاقون الحقيقيون، لذا وجبت مقاومتهم، حتى لو كان الثمن المزيد من العزلة.


خارج العقل


«ميلودي» بطلة رواية «خارج عقلي» للكاتبة «شارون م. درابر» تبلغ من العمر 11 عاماً، وتتمتع بذاكرة فوتوغرافية، فدماغها يعمل مثل كاميرا، تقوم بالتسجيل دائماً، ويعتقد معظم الأشخاص أنها غير قادرة على التعلم، لكنها تحب الموسيقى، كما تحب الكلمات واللغة، وهي غير قادرة على الكلام، لأن لديها شللاً دماغياً، وهذا يعني أن جسدها متصلب، وتواجه صعوبة في السيطرة عليه.
تبدأ الرواية عندما تكون «ميلودي» طفلة، ويلاحظ والداها أن جسمها لا ينمو، وإن كان عقلها ينمو بسرعة، ويتم وضعها مع أطفال آخرين من أصحاب الهمم، فتحظى بالاحترام في مجتمعها التعليمي الجديد، وتشعر بإحساس أفضل، وتدرك ما هو الأهم بالنسبة لها، وتنهي الرواية بالطريقة التي بدأت بها، وتكتب سيرتها الذاتية عن حبها للغة والكلمات.


حرية بلا حدود نموذج لافت


في رواية «ليلة عرس» للروائي الراحل يوسف أبو رية، شخصية محورية لصبي جزار، أصم وأبكم، مطلع على أسرار وخبايا الحياة السرية لجيرانه، وعبر لغة الإشارة يفضح المسكوت عنه، ليقلقل الهدوء الظاهري للمجتمع الريفي في الرواية، فهو يستعيض عن خرسه بعين كالسكاكين: «إنك تقدر المسافات بما ترى عيناك لا بما تسمع أذناك» موقعه الهامشي على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، يزوده بحرية كبيرة، ويتيح له أن يرى ما لا يراه الآخرون.
هناك نموذج لافت في الرواية، ونقصد به الكاتب صبحي الجيار ( 1927- 1987) الذي أصيب وهو في الرابعة عشرة من عمره بمرض تيبس المفاصل، وهو ما جعله لا يستطيع المشي أو الجلوس، كل ما كان يفعله هو أن ينام على ظهره، ويحرك نصف ذراعه اليمنى، وهكذا قضى عمره نائماً في السرير، بسبب المرض، وسافر إلى لندن للعلاج، وفشلت رحلة علاجه، وعلى الرغم من الظروف الصعبة أصدر ثلاث مجموعات قصصية، وسيرته الذاتية «ربع قرن في القيود» في ثلاثة أجزاء.


حرية بلا حدود نموذج لافت


في رواية «ليلة عرس» للروائي الراحل يوسف أبو رية، شخصية محورية لصبي جزار، أصم وأبكم، مطلع على أسرار وخبايا الحياة السرية لجيرانه، وعبر لغة الإشارة يفضح المسكوت عنه، ليقلقل الهدوء الظاهري للمجتمع الريفي في الرواية، فهو يستعيض عن خرسه بعين كالسكاكين: «إنك تقدر المسافات بما ترى عيناك لا بما تسمع أذناك» موقعه الهامشي على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، يزوده بحرية كبيرة، ويتيح له أن يرى ما لا يراه الآخرون.
هناك نموذج لافت في الرواية، ونقصد به الكاتب صبحي الجيار ( 1927- 1987) الذي أصيب وهو في الرابعة عشرة من عمره بمرض تيبس المفاصل، وهو ما جعله لا يستطيع المشي أو الجلوس، كل ما كان يفعله هو أن ينام على ظهره، ويحرك نصف ذراعه اليمنى، وهكذا قضى عمره نائماً في السرير، بسبب المرض، وسافر إلى لندن للعلاج، وفشلت رحلة علاجه، وعلى الرغم من الظروف الصعبة أصدر ثلاث مجموعات قصصية، وسيرته الذاتية «ربع قرن في القيود» في ثلاثة أجزاء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"