مأسسة المقاطعة لتجديد الذاكرة

04:53 صباحا
قراءة 3 دقائق

يخيّل للمراقب أن المجتمع المدني العربي لا يملك أسناناً في فكّه، وبالتالي لا يستطيع العضّ على أي موضوع ليتمكن بعد ذلك من هضمه وإدخاله في أنسجة جسمه كجزء حيوي متفاعل في كل خلية من خلايا تلك الأنسجة. من بين تلك المواضيع قضية المقاطعة للكيان الصهيوني كرد على جرائمه الهمجية المتكررة، والتي كان آخرها مجزرة غزة. إننا نشاهد كيف تخرج الجماهير وتقسم بأنها ملتزمة بمقاطعة ذلك الكيان ومن يدعم جرائمه. وتتبارى بعدها جمعيات مناهضة للتطبيع والمقاطعة بإعطاء التصريحات التي تؤكد ذلك الالتزام. ولكن ما إن يمرُّ الوقت، ودائماً بعد فترة وجيزة، حتى يهدأ الغبار وتبرد العواطف ولا نعرف الى أين وصل حنث القسم أو البرّ به.

مبرر العودة مراراً وتكراراً الى هذا الموضوع هو المفارقة بين ما نسمعه من أخبار الآخرين وما لا نسمعه أو نراه من أخبارنا. مثلاً لماذا يمتنع العاملون في مرفأ صغير لمدينة ديربان في الجنوب الإفريقي عن تنزيل البضائع الإسرائيلية كردّ على مجازر غزة التي لم ينسوها بعد، بينما نسي عمال الموانئ العربية الموضوع برمّته، ويومياً ينزلون ويحملون ويخزنون بضائع العدو في موانئ عربية معروفة تمارس دولها التطبيع العلني أو السرّي مع الكيان الصهيوني؟ مثل آخر، لماذا تنشط مختلف الجامعات غير العربية وهيئات أساتذتها ومراكز بحوثها في تنظيم حملات مقاطعة للمؤسسات الأكاديمية في الكيان الصهيوني بينما لا نسمع عمّا ستفعله الجامعات العربية في هذا الشأن، خصوصاً بالنسبة للمؤسسات الأكاديمية الغربية التي تسند وتموّل وتتعاون مع المؤسسات الصهيونية في فلسطين المحتلة؟ الأمثلة كثيرة، وكلها تشير الى أنه عندما يهتم الآخرون بموضوع فإنهم يعضون عليه بأسنانهم ولا يتركونه حتى يوصلوه الى نهاية مقبولة، بينما ترخي مؤسسات المجتمع العربي فكّها بعد فترة وجيزة ليسقط الموضوع من فمها ويقع في صناديق مزابل النسيان.

إن معاقبة ومقارعة الذين يقتلون يومياً أطفالنا ونساءنا وشبابنا وشيوخنا، ويقضمون أرضنا بلا توقف، ويأتون بجحافل الغزاة من دون هوادة أو شبع، إن ذلك يتطلب جهداً علمياً منظّماً مستمراً ومتنامياً وتعاونياً على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية، وإلا فإنه لن يجدي. مثل ذلك الجهد وحده يُبقي الغضب ضد الظلم في نفوس الأمة، ويجدّد ذاكرتها باستمرار، ويتغلّب على طبائع النسيان في الإنسان. من هنا يحق لنا أن نطالب قوى محاربة التطبيع والمطالبة بالمقاطعة بأن يكون لها نشاط إعلامي يومي يخبر الناس ومؤسساتهم عن الشركات والمؤسسات والجهات التي تغذّي الحياة في الجسم الصهيوني ويرسم للناس ومؤسساتهم الخطوات المضادة المطلوبة ضدّ تلك الجهات. إن ذلك الإعلام يجب أن يشمل الصحف والراديو والتلفزيون والإنترنت ومنابر المسجد والمآتم والمدرسة والنادي والنقابة. وفي خضم كل ذلك يشار من دون تردد الى الجهات المتعاونة أو المتواطئة مع جهات الدعم للصهيونية تلك. ومن المؤكد أن ذلك يحتاج الى مأسسة موضوع المقاطعة على مستوى المجتمع المدني ليتابع كل تفاصيل العلاقات التجارية والاقتصادية والعلمية وغيرها بين الكيان الصهيوني وبين جهات العالم التي تدعمه. عند ذلك فقط يمكن الحديث عن بقاء قضية المقاطعة وعدم التطبيع مع الكيان الصهيوني ومن يدعمونه حيّة ومتألقة في الذهن العربي الرسمي والشعبي ولا تذبل مع مرور الوقت.

هل هذا كثير؟ نعم إنه بالغ الكبر حجماً ووزناً ومسؤوليات، لكن في غياب حماس وجهود المؤسسة الرسمية العربية، وفي تنامي محاولات محاصرة وإضعاف المقاومات العربية، وعلى الأخص المسلحة منها، وفي دخول أمراض الشيخوخة والخرف بعض أعضاء الجسم الفلسطيني، يصبح الموضوع الذي نحن بصدده موضوع حياة أو موت. وهل هناك دلائل موت أكثر من أن يتعامل عمال الموانئ الأفارقة الفقراء وأساتذة جامعات الغرب المختلفة مع البربرية الصهيونية بجدية ومثابرة، بينما نتعامل نحن معها بهزل وعبث؟ في كل الأرض العربية يحتاج الموضوع لإعادة نظر تحتّمه مسؤولياتنا السياسية القومية والأخلاقية والدينية حتى لا تضيع تضحيات أهل غزة، ومن قبلهم كثيرون، في أودية الصمت ووحشة القبور.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"