«الحراك السياسي» ووسائط التواصل الاجتماعي

03:32 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

يتميز الحديث عن دور وسائط التواصل الاجتماعي في سياق حركات الاحتجاج في العديد من دول العالم، لاسيما في الوطن العربي، بكثير من الشطط والمبالغة في إصدار الأحكام التي يذهب بعضها إلى اعتبار هذه الوسائط بمثابة المحرِّك الأساسي للاحتجاجات الشعبية، انطلاقاً من الدور المحوري الذي باتت تلعبه من أجل تشكيل إعلام يوصف بالبديل، ويعتمد على انتشار أفقي يخترق أدوات المراقبة التقليدية للدول التي تخضع لها وسائل الإعلام التقليدية. بيد أنه إلى جانب هذا الدور المفترض لوسائط التواصل الاجتماعي في تشكيل وعي الحشود، فإن هناك آثاراً سلبية لهذه الوسائط على التماسك المجتمعي، وعلى استقرار وديمومة الكيانات الوطنية، في سياق دولي وإقليمي يتميز بانهيار كبير لمجمل الضوابط والمرجعيات السياسية التقليدية التي ظلت سائدة منذ نهاية الحرب الكونية الثانية.
لقد حدث خلال السنوات الماضية كثير من الاندفاع الإعلامي تجلى من خلال إطلاق بعض التعبيرات الكاريكاتورية في وصف موجات الاحتجاجات، حيث جرى الحديث عن «ثورة تويتر» بالنسبة للأحداث التي شهدتها إيران سنة 2009، و«ثورة الفيسبوك» بالنسبة للحراك الذي عاشته دول عربية مع مطلع العشرية الأخيرة لاسيما في تونس ومصر، ويجري في المرحلة الراهنة إعادة إنتاج التصورات نفسها بشأن ما وقع ويقع في دول مثل السودان، ولبنان والعراق والجزائر، من خلال المبالغة في تقييم الدور الذي تلعبه وسائط التواصل الاجتماعي في حث المواطنين على الاحتجاج والتجمع في الساحات العامة للمطالبة بالتغيير السياسي، والدعوة إلى محاربة الفساد وإسقاط رموزه.
وإذا كان صحيحاً أن وسائط التواصل الاجتماعي تلعب دوراً بارزاً في التعبير عن حالة الغضب والاحتقان داخل الأوساط المهنية والمجتمعية، وتسهم في نقل انشغالات وتطلعات فئات واسعة من الشعب إلى النخب الحاكمة، فإنه من الخطأ أن نتصور أنه يكفي فتح وتحريك هذه الوسائط من طرف روادها، من أجل تحقيق انتقال سياسي أو إحداث «ثورة» في المجتمع من قمة الهرم إلى قاعدته؛ لأن غياب «تويتر»، على سبيل المثال، لم يمنع سكان ألمانيا الشرقية من إسقاط حائط برلين سنة 1989.
لا يمكننا في كل الأحوال إغفال حقيقة أن «فيسبوك» و«تويتر» على سبيل المثال لا الحصر، وفَّرا للناس فضاء حيوياً لممارسة هامش كبير من حرية التعبير، لكن ذلك كله يحدث بموازاة تطوير وسائل مبتكرة وغير مسبوقة للرقابة الإلكترونية التي باتت تسمح مع مرور الوقت للحكومات وللدول بممارسة مراقبة مشددة لحواسيب وهواتف المستخدمين، وقد لا يمر وقت طويل قبل أن تصل المؤسسات الأمنية إلى توظيف هذه الوسائط لصالحها، من أجل تدجين رواد «فيسبوك» و«تويتر».
إن انتشار وسائط التواصل الاجتماعي يُبرز بشكل جلي، حالة تراجع هيبة السلطة وانحساراً في سلم الترتيب الهرمي، وأفولاً في الاختلافات بشكل ملموس، حيث يشجع هذا الانتشار الصراعات على مستوى القاعدة.
ومن الواضح عطفاً على ما تقدم أنه جرت حتى الآن، المبالغة في تقريض «السوشيال ميديا»، وتم إغفال ما قدمه كثير من المفكرين من تحفظات بشأن هذه الظاهرة، أمثال أمبيرتو إيكو، الذي قال: «إن وسائط التواصل الاجتماعي منحت الحق في الكلمة لفيالق من المعتوهين الذين لم يكن بإمكانهم التسبب في أي ضرر للمجموعة، حيث كان يتم إسكاتهم للتو. أما الآن فلهم الحق نفسه في الكلمة، مثل الحاصل على جائزة نوبل».
وبالتالي، فإن هذه الوسائط التي كثيراً ما تشجع المراهقة السياسية والفكرية، تُسهم في جعل العالم يتحول إلى فضاء افتراضي واصطناعي، حيث يحمل التعبير عبر صفحاتها سمة كتابة اللحظة السريعة المتشنجة التي تُغيّب الرقابة الذاتية، وتُطلِق الغرائز وتُحرِّر النوازع، وتؤجج المشاعر، كما تشعل الفتن وتنشر الحقد والكراهية على المباشر.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"