اللغة في المعادلة السياسية بأوروبا

05:44 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

أعادت الاحتجاجات التي اندلعت في مقاطعة كتالونيا في إسبانيا، طرح إشكالية علاقة الألسن والمجموعات المحلية بالسياسة في الدول القومية بأوروبا التي اكتملت حدودها الجغرافية خلال العقود الأولى من القرن التاسع عشر، وتثير هذه العلاقة أسئلة محرجة بشأن جذور التوترات الراهنة؛ حيث ينظر إليها البعض على أنها مشكل لساني محض يتعلق بالاختلافات ذات الأبعاد اللغوية في الدولة الواحدة، بينما يذهب فريق آخر إلى طرح الإشكالية من زاوية سياسية صرفة تتعلق بوجود مجموعات محلية ومناطقية تحمل تطلعات قومية مبنية على وجود توجهات وطنية وعرقية مختلفة عن الدولة- الأمة التي تأسست بحسبهم على أنقاض الهويات المحلية التي تعرضت للقمع الممنهج في زمن حكم الإمبراطوريات الكبرى في أوروبا.
وتختلف علاقة الألسن المحلية أو ما يسمى في فرنسا باللغات الجهوية بالتمثلات الهوياتية والسياسية في القارة الأوروبية من دولة إلى أخرى، فهناك دول لا تطرح التمايزات اللسانية بداخلها أي إشكال سياسي لدى السكان، بينما نجد دولاً لجأت إلى اعتماد تقسيم فيدرالي قائم على الاختلافات اللسانية، في مقابل دول حاولت أن تعطي حكماً ذاتياً موسعاً للمقاطعات الناطقة بلسان مختلف عن اللسان الوطني مثل إسبانيا، فضلاً عن دول أخرى أكثر مركزية في تسييرها للشأن العام تحولت فيها الألسن الجهوية إلى شكل من أشكال التنوع الثقافي في سياق التراث الوطني الجامع.
بالنسبة لسويسرا اضطرت الدولة منذ تأسيسها على أساس كانتونات في إطار اتحاد فيدرالي، إلى تبني خيار التعددية اللسانية واعتبرت الألسنة الأربعة التي تتحدث بها المجموعات السكانية ألسنة وطنية بُني على أساسها التقسيم الفيدرالي، لاسيما وأن هناك 3 ألسنة من بين الأربعة، تحظى بمقام اللغة الوطنية المهيمنة في دول كبرى مجاورة وهي اللغة الألمانية والفرنسية والإيطالية؛ ولم يطرح هذا التعدد اللساني حتى الآن أي توتر بالنسبة لسويسرا وظل يمثل في جوهره اختلافاً لسانياً ليست له تأثيرات سلبية على المستوى السياسي.
ويتضح الدور الأبرز لمسألة اللغة في المعادلة السياسية في أوروبا من خلال الصراع المحتدم في بلجيكا بين اللسان والسياسة منذ تأسيس الدولة البلجيكية سنة 1830، حيث يختلط الصراع في هذا البلد بين المجموعتين العرقيتين الفلامانية والولونية من جهة وبين اللغة الهولندية- البلجيكية واللغة الفرنسية من جهة أخرى.
ويشير الباحث أليكس داسارغ، في دراسة أعدها بالاشتراك مع اثنين من زملائه بشأن التوترات في بلجيكا، إلى أنه بين السياسة واللغة ليس هناك وئام دائم، فبالنسبة لتسيير المجتمعات المتعددة الألسن يمكن ملاحظة تنوع كبير للحلول السياسية؛ حيث إنه وفي العديد من المجتمعات المختلفة لسانياً والمنقسمة أحياناً بسبب البعد اللغوي، فإن الجوانب السياسية واللغوية تكون مرتبطة بشكل حميمي.
أما دور اللغات في دول أوروبا الغربية الكبرى فمختلف إلى حد بعيد، فقد استطاعت اللغة الألمانية مثلاً أن توحّد السكان الناطقين بها إلى حد التعصب منذ نشأة الدولة البروسية، بل أن اللغة الألمانية نجحت في التأثير على التوازن والاستقرار السياسيين في العديد من الدول المحاورة لها؛ وتلعب اللغة في فرنسا وبريطانيا دوراً سياسياً أقل بروزاً في المرحلة الراهنة نظرا للهيمنة الواضحة للفرنسية والإنجليزية بوصفهما لغتين وطنيتين رائدتين.
ويمكن القول إن التوتر بين السياسة واللغة في أوروبا مرشح للتطور والتأثير على المدى المنظور في كيان الدولة القومية في إسبانيا أكثر من الدول الأخرى في غرب القارة العجوز؛ حيث إن المشكل الهوياتي واللساني في كتالونيا مفتوح على مزيد من التصلب في المواقف بين الوطنيين الانفصاليين في المقاطعة وبين الحكومة المركزية في مدريد، التي يبدو أنها لا تستطيع أن تقدم تنازلات إضافية للمقاطعة الانفصالية التي حصلت في مرحلة سابقة على حكم ذاتي موسّع. والملاحظة الأساسية التي يمكن أن نسجلها في هذا السياق هو أن الأزمات السياسية التي تحمل خلفيات لغوية في الدول الوطنية الحديثة، تبدأ في المطالبة بترقية الألسنة الجهوية أو المناطقية إلى مصاف اللسان الوطني، ثم تتحول تدريجياً إلى تمثلات سياسية قائمة على التمايز العرقي تطالب من خلاله بتأسيس كيان دولي مستقل.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"