جدلية العنف واللاعنف

04:57 صباحا
قراءة 3 دقائق

جدلية استعمال العنف أو الاكتفاء باللاعنف في الحياة السياسية العربية يجب ألا تنتهي إلى أن تصبح ثنائية أخرى تضاف إلى الثنائيات العربية الشهيرة من مثل العلم مقابل الدين، أو القومية في وجه القطرية، أو الأصالة في صدامها مع الحداثة. ذلك أن تاريخ الحياة السياسية في شتى بقاع الأرض وعبر مختلف الأزمنة قد أظهر بأن هناك مكاناً للاثنين، حسب الظروف ومعطيات الواقع.

فالعنف في ذاته ليس كله شراً واللاعنف في ذاته ليس كله خيراً، والتعامل مع القوى الاستعمارية أو القوى الداخلية الاستبدادية يعتمد على مدى استجابتها لهذا الأسلوب أو ذاك. وإذا وجدت قوى أي مجتمع نفسها أمام قوة استعمارية أو سلطة استبدادية لا تستجيب لنداءات العقل أو متطلبات العدالة فإن التجاءها للعنف تبرره رسالات السماء والمبادئ الأخلاقية ومنطق الممارسة السياسية الفاعلة.

وبالطبع فالعنف الذي نعنيه هو الاستخدام المشروع للقوة وليس العنف الذي يؤدي الى الأذى والى التدمير الأعمى لمقومات المجتمع وامكاناته، وهو الذي يمثل في جوهره الصراع المفروض بين قوة ظالمة وبين جهة مظلومة تدافع عن نفسها وكرامتها، بل وأحياناً وجودها.

والواقع أن المجتمعات لا تلجأ الى استعمال العنف السياسي إلا في مواجهة عنف آخر متوحش ظالم، كالعنف الاجتماعي الذي قد يمثله مثلاً نظام رأسمالي جائر ينهب الثروات ويؤدي بالملايين الى عار الفقر والتهميش، أو كالعنف السلطوي الذي تمارسه سلطة جائرة تدوس على كرامة الناس وتمنعهم من حقوقهم الإنسانية الأساسية وتقمع حرياتهم وتنشر اللاعدل واللامساواة في كل أرجاء المجتمع، أو كالعنف الذي تمارسه قوة استعمارية خارجية ضد دول أصغر وأضعف منها من أجل مطامع اقتصادية واستراتيجية، وفي الحالات الثلاث السابقة يكمن بيت القصيد ويوجد مربط الفرس.

ذلك أن الأقلام الجاهلة أو المنحازة أو المأجورة تنبري في كثير من الأحيان الى تضخيم وإدانة كل أنواع العنف التي تمارسها الجماعات كدفاع عن نفسها وحقوقها، وفي الوقت نفسه الى تبني كل أنواع العنف المادي والمعنوي الذي تمارسه الحكومات أو الأنظمة الاقتصادية أو القوى الخارجية الظالمة. ولنا خير مثال في الكتبة والإعلاميين والسياسيين الانتهازيين الذين يبررون ليلاً ونهاراً، سراً وعلناً، ممارسات العنف الصهيوني في فلسطين المحتلة، والعنف الأمريكي في العراق وأفغانستان، وعنف العولمة الاقتصادية المتوحشة في المعمورة كلها وعنف حكومات الاستبداد في الوطن العربي، وهي إذ تفعل ذلك لا تبقي كلمة بذيئة ولا جملة ظالمة إلا وتلقيها في وجوه الأفراد أو الجماعات التي تلجأ مضطرة أحياناً الى ممارسة العنف في وجه الاحتلال أو في وجه توزيع الثروة الجائر، أو في وجه التمييز بسبب العرق أو الدين أو المذهب أو العائلة أو الحزب، وينسى هؤلاء أن العنف الذي يمارسه الضعيف هو في أكثر الأحيان إشهار لرفض عنف مادي ومعنوي ونفسي وبنيوي، تفرضه جماعات صغيرة متمكنة، متخمة بالمال والسلاح وعلاقات المصالح المتبادلة مع الخارج والداخل، وذلك على حساب ملايين الفقراء والمهمشين.

ومع ذلك فإن أساليب اللاعنف الكثيرة، والتي تعد في أشكالها بالعشرات، بدءاً بالاحتجاجات وانتهاء بالعصيان المدني، أساليب اللاعنف هذه يجب أن تسبق مرحلة الاضطرار الى استعمال العنف ويجب أن ترافقه وتسير الى جنبه وتكمله في حالة الاضطرار الى استعماله.

إن الآية الكريمة التي تقول وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين هي تجسيد لروح هذا التوجه المتوازن المعقول.

العنف واللاعنف هما أسلوبان مكملان لبعضهما بعضاً في فترات تاريخية محددة، وليسا من ثنائيات التضاد العربية العبثية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"